خلّيك بالبيت
المرحلة الأولى
الأب داني يونس اليسوعيّ
ما يشغلني في هذه الأيّام الصعبة الّتي نجتازها هو ألاّ أكون على مستوى الزمن الحاضر. علمتُ منذ صغري أنّ الأيّام تعبر وما من سبيل لإعادتها، وتصالحت منذ زمن مع شعوري بالهدر المستمرّ، ولا يغيب عن بالي أنّ الزمن الّذي يُنمي الزرع وينضج النفس هو هو الزمن الّذي يأخذ نصيبه من كلّ جسم. وليست الأزمة الحاضرة مفاجأة إلاّ لمن نَسيَ أنّ «لكلّ شيء تحت السماء وقتًا» (سفر الجامعة، ٣). فلا تشغلني خسارة الوقت. ولكن ما أخشاه هو أن تعبر الأيّام ولا أنتبه إلى أن أكون على مستواها. ولهذا أنظر إلى المسيح بإعجاب، هو الّذي، حين « أتت الساعة» (يوحنّا ١٢) لم يغفل عنها ولا هرب. اضطرب كما يضطرب البشر، ولكنّه لم يغفل ولم يهرب. بل وجد اسمه في قلب العاصفة. أخذ مكانه وحقّق نفسه. لبّى دعوته. ما يقلقني في العاصفة ليس أنّها تأخذ ما ظننته ثمينًا، بل أنّها تأتيني بما هو أثمن وأسمى، وأخشى أن أمرّ به مرور الكرام ولا أحفل.
«ماذا تريد؟» هذا هو السؤال المؤرق الّذي تحمله العاصفة. سليمان طلب قلبًا فهيمًا، ليكون على مستوى مسؤوليّته (سفر الملوك الأوّل/ ٣: ٤-١٥)، وبرطيماوس الأعمى طلب أن يبصر، ليكون على مستوى قيمته وحياته (مرقس ١-: ٤٦-٥٢)، وتلميذا يوحنّا أجابا: «أين تقيم» (يوحنّا ١: ٣٩-٤٢) ليكونا على مستوى رغبتهما. ماذا أريد؟ أن أكون على مستوى دعوتي، على مستوى اسمي، على مستوى الزمن الحاضر.
في بداية زمن الجائحة، طلب إليّ أَخَوان حبيبان من إخواني رياضة روحيّة للناس الّتي عليها أن تلزم البيت بلا استعداد ولا كلمة سند. فكانت «خلّيك بالبيت»، رياضة روحيّة تُقام في المنزل، وتقوم على النظر إلى المسيح لكي نأخذ عنه سرّه. سرّ المسيح هو الآب، الّذي ما انفكّ يسوع يكشفه لنا. تمتدّ الرياضة على مدى أسبوعين، وقد كانت لي مناسبة للصلاة، كما كانت لآخرين شاركوني خبرتهم. وهذه بداية لسلسلة رياضات أنشرها في هذا الزمن العصيب، لعلّها تساعد ممارسيها على أن يجدوا اسمهم الخاصّ في قلب العاصفة، فيكونوا حقًّا على مستوى الزمن.
الأب داني يونس
راهب يسوعيّ
٢١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠
اليوم الأوّل: نداء الخفية
اليوم الأوّل: نداء الخفية
يسوع يكشف لنا عن سرّ قوّته ويعلّمنا كيف يستطيع الإنسان أن يبقى ثابتًا حتّى حين كلّ شيء يتزعزع. يكشف لنا أنّ سرّه هو الآب. علاقته المتينة بالآب تجعله قويًّا. بتجسّده صار مشابهًا للبشر في كلّ شيء، متسربلاً بضعف البشر كما تقول الرسالة إلى العبرانيّين. ولكنّه يقود الإنسانيّة إلى مصدر قوّتها، إلى الآب، لهذا يقول: “إذا صلّيتَ، ادخل إلى مخدعك وأغلق الباب وصلّ في الخفية، وأبوك الّذي يرى في الخفية هو يجازيك”. (متّى ٦)
نختبر عدم الثبات لأنّنا نستمدّ قوّتنا من المظهر: يراني الناس ويكافئونني. ولكنّ المظهر يخدع والناس أحيانًا تنخدع وتخدع، أمّا الله فلا ينخدع ولا يخدع. “حتّى الظلمة ليست ظلمة لديك والليل يضيء كالنهار” (مزمور ١٣٩). في الخفية أسمح لله أن يخلقني، أن يرتّب باطني، أن يعلّمني: “علّمتني الحقّ في أعماق النفس” (مزمور ٥١). ليس أنّ الله يعرفني ويحبّني فحسب، بل الله يدعوني إلى ملاقاته في الخفية: “تعالوا أيّها العطاش جميعًا… اسمعوا لي فتشبع نفوسكم” (أشعيا ٥٥). ويسوع أيضًا، مثل الآب يدعوني إليه: “تعالوا إليّ أيّها المثقلون والمتعبون وأنا أريحكم” (متّى ١١).
الخفية تناديني لأنّ الله يريد أن يخاطبني. يعرفني باسمي ويعرف أتعابي ويريدني أن أعرف نفسي. في الخفية يبنيني مثل بيت مبنيّ على صخر. ما الفرق بين بيت مبنيّ على الصخر وبيت مبنيّ على الرمل؟ إن كان الطقس لطيفًا لا نرى الفرق، أمّا إذا هبّت الريح وهطلت الأمطار فالبيت المبنيّ على الصخر يصمد والبيت المبنيّ على الرمل يقع (متّى ٧). لم يعد المسيح أن لا عواصف، بل وعد ببيت لا يقع إذا كان مبنيًّا على الصخر.
في قلبي شوق إلى الحياة والحبّ، شوق أحاول تلبيته في الخارج وأهمل باطني. إذا صنعتُ الخير أصنعه لأفوز بتقدير الناس، وإذا صنعتُ الشرّ أصنعه لأضمن لنفسي مكانًا على الأرض ولو على حساب الآخرين. إذا صنعتُ الخير أصنعه ليمجّدني الناس وإذا صنعت الشرّ فلكي أنتقم لخيبات أملي ولأطلق العنان لغضبي. هذا حال من يعيش في الخارج فحسب. يظنّ أنّه يقوم برسالة إذا خدم في كنيسة أو تطوّع في جمعيّة، ولكنّ الرسالة تفترض علاقة بالّذي أرسلني. لهذا لا غنى عن الداخل. لأنّ من عرف الآب يصير ابنًا له، يصنع الخير لأنّه يحبّ الخير، رأى الناس أم لم يروا، ويجتنب الشرّ لأنّه يحبّ الناس، سواء أأحبّ الناس أم كرهوا:
“سمعتم أنّه قيل أحبب قريبك وأبغض عدوّك، أمّا أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم وصلّوا من أجل مضطهديكم لتصيروا بني أبيكم الّذي في السموات، لأنّه يطلع شمسه على الأبرار والأشرار وينزل المطر على الأبرار والفجّار” (متّى ٥: ٤٣-٤٥).
من أين لك القوّة لكي تقول ذلك يا يسوع؟ من معرفة الآب معرفة حميمة. لأنّ من يتعلّم الحبّ على يد البشر يحبّ مثل البشر، أمّا من درس الحبّ بين يدي الله أحبّ مثل الله. الشوق الّذي في قلبي يطلب مثل هذا الحبّ.
وإذا دخلتُ مخدعي وأقفلت بابه وسكنتُ الخفية، كيف أصلّي؟ كيف أعرف أنّ هنا من يسمعني وكيف أسمع صوته إذا خاطبني؟ كيف لا أجعل من وحدتي صديقًا خفيًّا أضع على لسانه ما أريد أن أقوله لنفسي فأبقى مكاني؟ لأنّ القوّة لا تأتي من الإيحاء الذاتيّ بل من آخر يكلّمني! سأل يسوعَ تلاميذُه: علّمنا أن نصلّي، فعلّمهم الأبانا. سنبدأ من هنا، من الأبانا، وشيئًا فشيئًا سنتعلّم الإصغاء إلى الصوت الإلهيّ، سنتعرّف إليه هامسًا في البداية، ومع الوقت سنكتشف أنّ صوت الله صوتٌ صارخ في عالمنا ولكنّ آذاننا تعوّدت أن تنغلق عليه.
سنهتدي بنصّ الأبانا كما أورده لوقا (١١: ١-١٣):
١١ 1وكانَ يُصلِّي في بَعضِ الأَماكِن، فلَمَّا فَرَغَ قالَ لَه أَحَدُ تَلاميذِه: يا ربّ، عَلِّمنا أَن نُصَلِّيَ كَما عَلَّمَ يوحنَّا تَلاميذَه. 2فقالَ لَهم: إِذا صَلَّيتُم فَقولوا: أَيُّها الآب لِيُقَدَّسِ اسمُكَ لِيأتِ مَلَكوتُكَ. 3أُرزُقْنا خُبزَنا كَفافَ يَومِنا 4وأَعْفِنا مِن خَطايانا فإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه ولا تَترُكْنا نَتَعرَّضُ لِلَّتجرِبَة.
5وقالَ لَهم: مَن مِنكم يَكونُ لَه صَديقٌ فيَمْضي إِلَيه عِندَ نِصفِ اللَّيل، ويَقولُ له: يا أَخي، أَقرِضني ثَلاثَةَ أَرغِفَة، 6فقَد قَدِمَ عَلَيَّ صَديقٌ مِن سَفَر، ولَيسَ عِندي ما أُقَدِّمُ لَه، 7فيُجيبُ ذاك مِنَ الدَّاخلِ: لا تُزعِجْني، فالبابُ مُقفَلٌ وأَولادي معي في الفِراش، فلا يُمكِنُني أَن أَقومَ فأُعطِيَكَ. 8 أَقولُ لَكم: وإِن لم يَقُمْ ويُعطِه لِكونِه صَديقَه، فإِنَّه يَنهَضُ لِلَجاجَتِه، ويُعطيهِ كُلَّ ما يَحتاجُ إِلَيه. 9وإِنَّي أَقولُ لَكم. اِسأَلوا تُعطَوا، اُطلُبوا تَجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لَكم.10لأَنَّ كُلَّ مَن يَسأَلُ ينال، ومَن يَطلُبُ يَجِد، ومَن يَقرَعُ يُفتَحُ له. 11 فأَيُّ أَبٍ مِنكُم إِذا سأَلَه ابنُه سَمَكَةً أَعطاهُ بَدَلَ السَّمَكَةِ حَيَّة؟ 12أَو سَأَلَهُ بَيضَةً أَعطاهُ عَقرَباً ؟ 13فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه.
خطوات التأمّل
لا أتأمّل عشوائيًّا لئلاّ أخلط بين وقت التأمّل والأوقات الأخرى الّتي أتكلّم فيها مع الآخرين أو أكلّم نفسي في باطني. بل أختار وقتًا محدّدًا ببدايته ونهايته. يمكنني أن أخصّص مثلاً نصف ساعة للتأمّل. وأحدّد مكانًا للتأمّل وأفضل مكان هو حيث لا يقاطعني أحد (قدر الإمكان، فلكلّ واحد ظروفه، والتأمّل لا يحتاج إلى ظروف معيّنة بل إلى رغبة في تأمين أفضل الظروف في ما هو متوفّر).
حين يأتي وقت التأمّل أبدأ بتحضير قلبي: أتذكّر ما أنا هنا لأجله وما أريده، أي أن أحاور الله لأعرفه معرفة أفضل ولأدعه يبنيني، ثمّ أطلب مساعدته: “باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد. آمين. أبتِ ها أنا ألبّي نداءك. ساعدني لكي أكون حاضرًا لك كما أنت حاضر لي.” (يمكنني بالطبع أن أحضّر قلبي بكلمات أخرى، أو بصلاة أعرفها وأحبّها، أو أيّ شيء يدفعني إلى الخشوع).
ثمّ أقرأ نصّ التأمّل مرّة وأتخيّل أنّي ذهبت بالروح إلى ذلك المكان حيث يسوع علّم تلاميذه الصلاة. وأنا في ذلك المكان بالروح، كما لو كنتُ أحجّ إليه بالخيال، أطلب ثمرة هذا التأمّل: “ربّي، علّمني أنا أيضًا أن أصلّي كما علّمتَ تلاميذك. افتح قلبي لأسمع كلمتك وأفهم ما تقوله لي.”
بعد هذا التحضير أقرأ النصّ من جديد، متوقّفًا على الكلمات الّتي تستوقفني، متذوّقًا إيّاها، متنبّهًا لمعانيها. كما أتخيّل الأشخاص، يسوع وتلاميذه، كما لو كنت أنظر إلى أيقونة. بل ربّما أتخيّل نظرة يسوع عليّ: يعرف أنّي حاضر ويرحّب بي، ويشرح كلماته بطريقة تناسبني أنا أيضًا. وكلّما شعرتُ بتذوّق في ما أفعله أبقى حيث أنا ولا أتقدّم في النصّ إلى أن أشبع. ثمّ أفكّر في ما قرأته أو تخيّلته أو تذوّقته: ما الّذي أفهمه من هذا؟ ثمّ أكمل إلى أن ينتهي النصّ أو إلى أن يقترب وقت التأمّل من نهايته.
للمساعدة، أقترح هنا بعض النقاط الّتي يمكنني التوقّف عليها:
• “وكانَ يُصلِّي في بَعضِ الأَماكِن، فلَمَّا فَرَغَ قالَ لَه أَحَدُ تَلاميذِه: يا ربّ، عَلِّمنا أَن نُصَلِّيَ”. أتخيّل يسوع يصلّي. ما الّذي رآه تلاميذه حتّى أرادوا هم أيضًا أن يتعلّموا الصلاة؟ أيّ شوق فيهم تحرّك عند رؤيتهم يسوع يصلّي؟ وأنا، ما الّذي يعجبني بيسوع حتّى أريد أن أعرف سرّه وأن أتعلّم طريقه؟
• “إِذا صَلَّيتُم فَقولوا: أَيُّها الآب”. الكلمة الأولى في الصلاة تحتويها كلّها. الأبوّة هي ارتباط. ليس الله غير مبالٍ ولا هو بعيد نسترضيه بالصلاة، بل هو ينظر إليّ من قبل أن أنظر إليه ويسمع أنفاسي من أقبل أن أصغي إليه ويهتمّ لي من قبل أن أهتمّ له…
• “وإِن لم يَقُمْ ويُعطِه لِكونِه صَديقَه، فإِنَّه يَنهَضُ لِلَجاجَتِه، ويُعطيهِ كُلَّ ما يَحتاجُ إِلَيه.” لماذا يدعونا يسوع إلى الإلحاح في الصلاة؟ هل يحتاج الله إلى أن نقنعه بأن يعطي النعمة؟ أم أنّه يريد أن يعطيها أكثر ممّا نريد نحن أن ننالها؟ هل الإلحاح هو لإقناع الله أم لكي نقتنع نحن باحتياجنا إلى النعمة؟
• “فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه.” أقوم بمقارنة بين حبّ الله وحبّ البشر، بين أبوّة الله وأبوّة البشر، بين ثبات الله وثبات البشر، وأسأل نفسي: من هم الأشخاص الّذين أحبّهم جدًّا، وماذا قد أفعل من أجلهم، وأفكّر أنّ الله سيفعل أكثر من أجلي. فأطلب أن أنال الروح القدس الّذي هو أثمن العطايا، لأنّه روح البنوّة.
حين يقترب وقت نهاية التأمّل أترك النصّ جانبًا وأتوجّه مباشرة لله وأكلّمه بما يجول في خاطري، كما يكلّم الصديق صديقه. أخبره بشعوري وأسأله عن مشيئته وأصغي: ما الّذي يقوله لي؟ أحيانًا تظهر كلمات الله في الشعور، مثلاً أنّي أشعر بمزيد من الخشوع أو من الفرح. أحيانًا تظهر بالعقل، من خلال كلمات أقولها لنفسي ولكنّها كأنّها آتية من آخر. في نهاية وقت التأمّل أقف وأقول الأبانا وأختم.
حين أخرج من التأمّل أفكّر في ما اختبرته وأدوّن ذلك: ما الصعوبات الّتي واجهتها؟ ما الّذي على العكس ساعدني؟ هل مرّ الوقت بسهولة أم بصعوبة؟
نصوص أخرى (للقراءة أو للتأمّل)
من العهد القديم
أشعيا ٥٥: ١-١١
١ملوك ٣: ٤-١٥
من المزامير
مزمور ١٣٩ “يا ربّ قد سبرتني”
مزمور ٢٣ “الربّ راعيّ”
مزمور ١ “طوبى للرجل”
مزمور ٦٣ “اللهمّ أنت إلهي”
من العهد الجديد
متّى ١١: ٢٥-٣٠
متى ٧: ٢١-٢٧
اليوم الثاني: كلمات البركة
اليوم الثاني: كلمات البركة
حين أختلي بإلهي، ماذا أنتظر؟ كيف أعرف صوته من بين الأصوات الّتي تسكنني. كثيرون يكلّمونني عن الله وكلامهم لا يشفي. “كنتُ قد سمعتُ عنك سمع الأذن أمّا الآن فعيني قد رأتكَ” يقول أيّوب. منهم من يقول لي: الله يحبّك، ومنهم من يقول: الله ينتظر منك، ومنهم من يقول لي: يا قليل الإيمان لماذا تخاف؟ كثيرون يتكلّمون ولكن ماذا يقول لي إلهي؟ وكيف أعرف صوته؟ ما الفرق بينه وبين صوت الناس الّذين يتكلّمون باسمه؟
كلمات الناس إمّا تُشعرنا بالذنب والتقصير، إمّا تعطينا طمأنينة كاذبة لا قوّة فيها ولا جرأة. أمّا كلمة الله فتتجرّأ على أن تدعوني إلى العمق بدون أن تذنّبني. نعرف كلمة الله من تأثيرها فينا، فحتّى لو عاتبتنا تبقى أمينة لنا، تفتح لنا طريق مصالحة، تغفر لنا، وتشجّعنا للمضيّ قدمًا في طريق شوقنا. نقول أحيانًا إنّ الحقيقة تجرح. أمّا عند الله فالحقيقة تحرّر. كلمته لا تساوم على الحقّ ولا تساوم على الحبّ. لا يجرحنا ولا يكذب علينا.
كلمة الله هي كلمة بركة. وكلمة البركة هي ما يجعلني أرغب في وجودي. حين يحتفل المحبّون بعيد ميلادي مثلاً، يقولون: مبارك اليوم الّذي وُلدتَ فيه، هذا اليوم كان بداية لحياة ثمينة لدينا، وها نحن نحتفل به. هذه كلمات بركة، لأنّها تصالحني مع من أنا، تجعلني أريد أن أكون من أنا. ولكنّها مثل كلّ كلمات الناس، متقلّبة، غير متينة، تدفئني بعد الشيء ثمّ أعود إلى برودتي. كلمة الله هي كلمة بركة بمعنى أعمق وأكبر. “بنفسي حلفتُ يقول الربّ”. تردُ هذه العبارة في كلام الله مع إبراهيم وغيره ممّن أقام معهم عهدًا. بالعهد يُلزم الله نفسه أن يكون بركة لي، ولا أقول لنا، لأنّ كلًّا منّا يستقبل كلمات البركة له شخصيًّا. الله يقيم عهده معي، ويلتزم أن يكون لي بركة، ولا يطلب بالمقابل إلاّ أن أصدّق هذا العهد، لأنّ من يقبل كلمات البركة يصير بركة. من يصدّق أنّ حياته تستحقّ أن تُعاش لا لأنّها ناجحة ولا لأنّها مليئة بالخيرات، بل لأنّ الله التزمها واختارها وأقام عهده معها، هكذا إنسان يتصالح مع نفسه ولا يعود يكرهها. ومن تصالح مع نفسه لا يعود فيه عنفٌ بل يحبّ الآخرين تلقائيًّا. وكلّ الحياة الروحيّة تقوم على الإيمان بكلمة الله وما ينتج عنها من حبّ يظهر بالأعمال لا بالأقوال.
كيف أعرف إذًا أنّ الله يكلّمني في الصلاة؟
أحيانًا، منذ أن أجلس للصلاة، أشعر بتيّار من الخشوع يجمع قلبي، وأختبر ما معنى البركة. في تيّار الخشوع هذا لا أعود أعبأ بصعوبات حياتي، ولا أعود أحكم على نفسي وأرفضها، ولكن بوضوح متزايد أرى كيف أنّ في حياتي كذبًا عليّ أن أتغلّب عليه، أو في حبّي نقصًا أرغب في علاجه. في جوّ البركة هذا أرى أيضًا العالم في جماله وشقائه، أحبّه كما يحبّه الله وأرى أمراضه وعنفه بدون إدانة وبرغبة صادقة في خلاصه. وكثيرًا ما تقودني كلمات البركة إلى أن أرى ما الّذي يمكنني أن أفعله في سبيل الّذي أحبّني وأحبّ العالم، ولكن هذا يأتي بدون ضغط ولا إكراه، بدون شعور بالذنب أو بالواجب، بل بطبيعة الحال، مثل امتداد للبركة الّتي تسكنني.
أحيانًا أخرى أبقى وقتًا في الصلاة ولا أجد البركة، فهي تظهر متأخّرة في بعض الأوقات، بل قد تختفي في بعض الأيّام. بهذه الطريقة يشفيني الربّ من ميلي إلى امتلاكه، واعتباره تحصيلاً حاصلاً، واستهلاكه. لأنّ الربّ يبقى الربّ، لا يصير صديقًا خفيًّا أضع على لسانه كلّ ما يبدو لي حسنًا. لهذا حين تكون الصلاة صعبة ومتطلّبة لا تكون أقلّ قيمة ممّا هي حين تكون سهلة جارفة. الفرق هو أنّي أحتاج إلى انتباه أكبر لأميّز بين صوت الله الّذي لا ينفكّ يكلّمني ولكن بدون تيّار البركة العارم، وبين أصواتي الأخرى الّتي قد تغشّني. في هذه الأوقات أحتاج إلى ذاكرتي الروحيّة: أتذكّر أنّ حياتي تستحقّ أن تُعاش لأنّ الله قال كلمته! أتذكّر أنّ الشعور بالذنب والتقصير، ومثله الشعور بالطمأنينة الرخيصة، لا يأتيان من كلمة الله بل من كلام الناس، فلا أسمح لهذين الشعورَين أن يملآني! أتذكّر كلمات الكتاب المقدّس الّتي بدأ التأمّل يعوّدني عليها، …
الإنجيل يحوّلني شيئًا فشيئًا إلى إنجيل، والروح القدس يرتّبني شيئًا فشيئًا إلى أن أكون هيكلاً له. والله الأمين لعهده معي يجعلني شيئًا فشيئًا أمينًا للعهد بدوري. هذا مفعول كلمة الله فيّ.
إنّ مشهد اعتماد يسوع يروي كيف سمع يسوع كلمة البركة تُقال عليه، هو الّذي به باركنا الله كلّ بركة روحيّة منذ قبل إنشاء العالم (أفسس ١: ٣) يكشف أمام أعيننا تيّار البركة الّذي يصل إلى كلّ واحد منّا، ويُسمعنا بأذنه هو كلمة البركة الّتي يقولها الآب على كلّ منّا باسمه وبفرادته. سنتأمّل برواية إنجيل لوقا (٣: ٢١-٢٢)
خطوات التأمّل
أحدّد مكانًا وزمانًا كما فعلتُ البارحة. من المفضّل قدر الإمكان أن يكون المكان نفسه والزمان نفسه.
حين يأتي وقت التأمّل أبدأ بتحضير قلبي. كلّ تأمّل يبدأ بهذه الصلاة التمهيديّة.
ثمّ أقرأ نصّ التأمّل مرّة وأتخيّل أنّي ذهبت بالروح إلى ذلك مكان اعتماد يسوع ومن هناك أطلب ثمرة هذا التأمّل: “ربّي، أسمعني كلمة البركة الّتي تقولها عليّ.”
ثمّ أقرأ النصّ من جديد، متوقّفًا على الكلمات الّتي تستوقفني، متذوّقًا إيّاها، متنبّهًا لمعانيها. كما أتخيّل الأشخاص، يسوع ويوحنّا المعمدان وكلّ الجمع الّذي أتى يطلب التوبة. وربّما أتخيّل نظرة يسوع عليّ: يعرف أنّي حاضر ومن أجلي يقوم بما يقوم به. لا أتسرّع في التأمّل بل أفكّر في ما أختبر: ما الّذي أفهمه من كلّ هذا؟ ثمّ أكمل إلى أن ينتهي النصّ أو إلى أن يقترب وقت التأمّل من نهايته.
للمساعدة، أقترح هنا بعض النقاط الّتي يمكنني التوقّف عليها:
• “ولـمّا اعتمد الشعب كلّه واعتمد يسوع أيضًا”. أنظر إلى الشعب يجتمع حول يوحنّا المعمدان. ما الّذي يجذبه في هذا الرجل؟ ربّما صدقه، شهادة حياته في البرّيّة؟ شعورهم أنّه واثق بالله؟ ربّما أيضًا شعورهم بأنّهم بعيدون عن أنفسهم ويحتاجون إلى توبة؟ أتخيّل الناس الّتي تجتمع في المزارات الدينيّة أو في الساحات. ماذا يطلبون؟ أسأل نفسي ما الّذي أتيتُ أعمله في هذا الرياضة؟ أراهم يعتمدون، مشتاقين لحياة أفضل. ثمّ أرى يسوع يعتمد. أشاهده، أحاول أن أصل إلى دوافعه، إلى حبّه للناس، إلى شعوره حين ينزل في الماء… وأفكّر في نفسي: قام يسوع برحلة طويلة ليصل إلى يوحنّا. من أجل الجمع، من أجلي. لماذا؟
• “وكان يصلّي، انفتحت السموات ونزل الروح القدس”. أرى من جديد يسوع يصلّي، كما أنا الآن أصلّي. مثلي ينتظر. لأنّه إنسان مثلي، ينتظر الروح وينقاد إليه. “تعلّم الطاعة مع أنّه الابن” تقول الرسالة إلى العبرانيّين. وأنا أنتظر الروح القدس بثقة، لأنّ يسوع اعتمد لأجلي، ليكون له ما هو لي، ولي ما هو له. أجلس صامتًا مع هذه الفطرة: صلاتي هي صلاة يسوع نفسها، والروح نفسه يأتي إليّ.
• “وأتى صوت من السماء يقول: أنت ابني الحبيب الّذي عنه رضيت”. كلمة البركة. أتخيّل كيف يستقبلها يسوع. هو يعلم أنّ الله أباه، ولكن حين تأتي الكلمة تُعطي أكثر من معرفة، بل تثبّت وتحوّل وتُحيي. أتخيّل أنّه يتذكّر حياته في الناصرة، والشوق الّذي كان في قلبه، والطريق الّذي أخذه إلى نهر الأردنّ، وكيف كلّ هذا يأخذ معناه وتثبيته، فيرتاح بهذه الكلمة. وأنا أستريح أيضًا بكلمة الآب: أنت ابني الحبيب. ألاحظ كيف الآب يقول كلمته حين يكون يسوع بين الخطأة التائبين. هناك، بين الخطأة يظهر ابن الله.
لا أنسى أن أتوجّه مباشرة لله وأكلّمه بما في قلبي، سواء أكان شكرًا وامتنانًا، أو حزنًا وألمًا، أو انتظارًا ومللاً. هذا ما نسمّيه “مناجاة”. أختم مناجاتي بصلاة الأبانا.
لا أنسى مراجعة التأمّل والتدوين: ما الصعوبات الّتي واجهتها؟ ما الّذي على العكس ساعدني؟ هل مرّ الوقت بسهولة أم بصعوبة؟
نصوص أخرى (للقراءة أو للتأمّل)
من العهد القديم
تكوين ١٢: ١-٩
أشعيا ٤٣: ١-٧
من المزامير
مزمور ٣٣ “هلّلوا للربّ”
مزمور ٣٤ “أبارك الربّ في كلّ حين”
مزمور ٤٠ “رجوتُ الربّ رجاءً”
من العهد الجديد
مرقس ٩: ٢-١٠
لوقا ٢: ٤١-٥٣
لوقا ٤: ١٤-٢٢
اليوم الثالث: كلمة رحمة ولمسة شفاء
اليوم الثالث: كلمة رحمة ولمسة شفاء
الآب هو سرّ يسوع. كيف يستطيع هذا الرجل أن يقف حين يقع الآخرون؟ كيف يستمرّ بالاهتمام حين الباقون لا يبالون؟ كيف يرفع الصوت عاليًا من أجل الحقّ والعدل حين يصمت رجال الدين ويسكت رجال السياسة ويختبئ الجميع؟ أسأل نفسي لماذا أسكت؟ لماذا أفعل ما يفعله الباقون؟ لماذا أخضع؟ ربّما لأنّ الخوف عدوى، وأنا لا أجرؤ على أن أكون وحدي. مجتمعنا مريض، ينقل الحبّ إلى حدّ ما، ولكنّه ينقل الخوف، وينقل اللامبالاة، وينقل قساوة القلب أيضًا. سرّ يسوع هو لقاؤه المستمرّ مع الآب، يحمي قلبه من القساوة، وعينيه من العمى وأذنيه من الصمم ولسانه من الخرس. والآب يعرفني ويريد أن يلمسني، لماذا أقاوم؟ أدّعي أنّ الله محبّة ولا داعي للخوف منه، ولكنّ الحبّ يخيفني أكثر من أيّ هاوية أخرى. لدرجة أنّ كثيرين يفضّلون أن يكونوا فرّيسيّين، يبالغون في أصوام وصلوات، ويرفعون الصوت معلنين انتماءهم للمسيح، ولكنّهم يختبئون من خوفهم الكبير من أن يحبّوا. عالمنا جريح، وأنا جريح، وأكرّر مأساة العالم لأنّي أخاف. لهذا آتي إلى الآب، كما أنا، جريح، وأطلب الشفاء. أليس من أجل المرضى أتى يسوع لا من أجل الأصحّاء؟ لن أدّعي الصحّة بعد اليوم، بل آتي إلى مكان الخفية حيث ألتقي بالآب، لأنّ مع كلمة البركة يقول كلمة رحمة ويلمسني لمسة شفاء.
لماذا أقاوم الحبّ؟ هذا ما يحيّرني إلى أقصى درجة! ربّما بسبب خيبة أملي من نفسي ومن مجتمعي، وحتّى من الّذين أحبّوني؟ ربّما لأنّي أخشى أن يظهر حبّي شاحبًا ناقصًا ضعيفًا؟ كم نحبّ شعورنا حين نُعجب الآخرين بكفاءتنا أو بمواهبنا أو بمحاسننا، وكم نخاف أن يستصغرنا الآخرون إذا ظهرنا على حقيقتنا. لهذا نهرب من نظرة الله علينا كما اختبأ آدم في الفردوس حين ناداه الله. لهذا نحبّ أن نقوم بأعمال نفتخر بها أمام الله وكأنّها تجعلنا أهلاً للحبّ. نعم، رغبتي في أكون محبوبًا، مقبولاً، مُرحّبًا بي في جماعة الناس تجعلني أريد أن أمتلك حبّهم، أن أأسره بما أمتلك من أسباب أظنّ أنّي لأجلها محبوب. وكذلك مع الله: أقاوم التأمّل لأنّي فيه فقير، وأفضّل أن أقوم بأشياء تُظهر غناي وحسني. هذا هو جرحي العميق، بل هو جرح الإنسانيّة الّذي يدفعها إلى العنف. لأنّنا نتنافس على مقام الأكبر، الأشطر، الأغنى، الأجمل، الأكثر موهبة، الأوفر سلطة… هذا الجرح، يريد الله أن يداويه، لهذا يكشفه أمامي، لا ليحتقرني ولا ليلومني، بل ليشفيني. يقول لي كلمة رحمة، أي كلمة من الرحم، من مكان الولادة. “أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابنَ بطنها؟ حتّى ولو نسيت النساء ها أنا لا أنساك” (أشعيا ٤٩: ١٥). كلمة الرحمة هي الّتي تذكّرني أنّي لستُ محبوبًا لأجل ما اكتسبته، بل لأجل من أنا. كلمة الرحمة تجعلني أحبّ ذاتي حتّى أنّي لا أحتاج إلى أن أبرهن أنّي جدير بالحبّ. فيمكنني عندئذ أن أتخلّى عن مطامح لا تناسبني وأخرج من صراعات لا تخصّني. عندئذٍ، يمكنني أن أقف حرًّا مثل المسيح، لا أحتاج إلى إرضاء الآلهة والناس، بل أتصرّف بما يلهمني به أبي الذي في الخفية يكلّمني.
كلمة الرحمة ترافقها لمسة شفاء. لا يكلّمني الله عن مقاومتي بشكل عامّ، بل يلمس مواضعها، يحضر إلى ذهني مواقف كنت فيها أقلّ من نفسي، كلمات قلتها تولّد الحزن، أفكارًا آويتها تحثّ على العنف، إهمالًا ينمّ عن قساوة قلب وهروب من الحبّ. يحضرها إلى ذهني لا ليحكم عليّ، بل لأنّه يحبّ الحقّ ويغار عليّ من أيّ كذب. يحضرها أمامي لكي أطلق سراحها فلا تعود تعيث فيّ الحزن. ولذلك يلمس حياتي، يضع أصبعه على الجرح، ويشفي.
سننظر إلى يسوع يشفي طفلاً مصابًا بالصرع ويطرد منه الشيطان في إنجيل مرقس (٩: ١٥-٢٩)
خطوات التأمّل
النقاط الّتي أقترحها هنا هي للمساعدة. من المفضّل الاستغناء عنها حين يكون التأمّل سلسًا وسهلاً
• أتوقّف أوّلاً على غضب يسوع: “أيّها الجيل الكافر، حتّامَ أبقى معكم وإلامَ أحتملكم؟”. أتخيّل المشهد: يسوع كان على جبل التجلّي مع بطرس ويعقوب ويوحنّا، وحين ينزل يجد تلاميذه في جدال، وحين يستعلم يفهم من رجل أنّه أحضر ابنه المتألّم إلى تلاميذه ولكنّهم لم يقدروا على طرد الروح النجسة منه. أسأل يسوع عن غضبه: من أجل الفتى، ومن أجل الأب، ومن أجل التلاميذ… الفتى يتخبّط، والأب يستسلم، والتلاميذ يظنّون أنّ الشفاء قدرة سحريّة، مسألة نجاح أو فشل، يقدرون أو لا يقدرون. أنظر إلى هذه الأحوال الثلاثة في نفسي وحولي: من يتخبّط ومن يستسلم ومن يظنّ أنّه يمتلك قدرات شفائيّة ويضع إيمان الناس في موضع شكّ. أشعر بغضب يسوع اليوم، يريد أن يقول كلمة الرحمة ولكن من يستقبلها؟
• ثمّ أتوقّف على حوار يسوع مع أبي الفتى. لماذا لم يشفِ يسوع الصبيّ مباشرةً؟ لأنّ المرض الحقيقيّ لم يظهر بعد. في حواره مع الأب يساعده على تسمية ألمه، لا بشكل عموميّ بل بشكل خاصّ، بالتفصيل، إلى أن يقول: إن كنتَ تستطيع شيئًا فأشفق علينا. فيقول يسوع كلّ شيء ممكن للّذي يؤمن. وهنا يظهر المرض الحقيقيّ، سبب استسلام الأب الّذي يصرخ: آمنتُ فتعال لنجدة عدم إيماني (الترجمة الأدقّ). الآن يصير الشفاء ممكنًا لأنّ المرض ظهر، وهو تأرجح الأب بين الإيمان وعدمه. لا يطالبه يسوع بالإيمان بل بتسمية مرضه. آخذ وقتي لأفهم شعور الأب ثمّ أنظر إلى شفاء الولد.
• أخيرًا أشاهد حوار يسوع مع التلاميذ: لماذا لم نستطع نحن أن نطرده؟ تعاطي التلاميذ مع الموضوع يقوم على “القدرة”، أمّا الشفاء فيحتاج إلى رحمة، ننالها من معرفة الآب، أي بالصلاة.
بعد المناجاة أختم بصلاة الأبانا وأراجع تأمّلي وأدوّن ما لفت انتباهي.
نصوص أخرى (للقراءة أو للتأمّل)
من العهد القديم
أشعيا ٦: ١-٨
أشعيا ٥٩: ١-٢١
من المزامير
مزمور ٥١ “ارحمني يا الله”
مزمور ٣٢ “طوبى لمن سُترت معصيته”
من العهد الجديد
مرقس ١: ٤٠-٤٥
مرقس ٥: ٢١-٤٣
اليوم الرابع: الغفران والمصالحة
اليوم الرابع: الغفران والمصالحة
في لقائي مع الآب الّذي يدعوني إلى الوجود، يباركني ويشفيني، أكتشف أنّ الله غفران لا حدّ له. لا يخاف من أعماقي ولا يخشى أن ألوّث قداسته. لأنّ أمانته لي أعظم من أن تعطّلها قلّة أمانتي. إنّ قساوة قلبي تُفاجئني أنا، أمّا الآب الّذي يرى في الخفية فيعلم حاجتي إلى الغفران قبل أن أسأله، وحين دعاني كان يعرف قلّة ثباتي. في لقائي معه أستقبل كلمة غفران. لا يستطيع أيّ إنسان أن يغفر لنفسه، بل هو يحتاج إلى أن يتلقّى الغفران من آخر. وهذا الغفران لا يأتي من شعور داخليّ ذاتيّ بل يحتاج إلى أن يُعلن لي: خطيئتك مغفورة. لهذا لم يكن ممكنًا لله أن يخلّصنا بدون التجسّد: فيسوع إنسانٌ قادر على أن يتكلّم باسم الآب، لأنّه كلمة الآب نفسها، يقول لي: “مغفورة خطاياك”. ويولّد يسوع في تاريخ البشر مسيرة غفران، فهو يهب لتلاميذه أن يتكلّموا باسمه، وهؤلاء لتلاميذهم، من جيل إلى جيل، لتكون كلمة غفران الخطايا شفاء لتاريخ خطيئتنا العنيد. الغفران أعطاه الله لنا بدون حساب، وأمّا الشفاء، أي المصالحة، فيتطلّب أن أطلب الغفران وأن أدعه يطال الأعماق المظلمة الّتي منها تصدر الخطيئة. لهذا فإنّ كلمة الله تزورني وتكشف قلبي لي ولا تتوقّف إلى أن تكشف خطيئتي لكي ينكشف لي أيضًا غفران الله، فأقبل الغفران وأعطيه لغيري ويستمرّ تاريخ الغفران يحيي الناس ويقاوم عنف البشر. ليس من شيء أكثر ضرورة لعالمنا من أشخاص تصالحوا مع أنفسهم بفضل الغفران الإلهيّ، لأنّ مثل هؤلاء ينشرون الغفران حولهم بدون حتّى أن يعرفوا.
كثيرون ينظرون إلى الندامة وإلى التوبة وكأنّها مسألة تحسّر ولوم للذات ومقاصصة للنفس. يقول القدّيس فرانسوا دي سال ما معناه أنّ الندامة الحقيقيّة لا يرافقها مرارة، فالمرارة هي تحسّر على كبرياء مجروح. التوبة هي اكتشاف عظيم: لم يحكم الله عليّ بسبب خطيئتي بل أحبّني وأحياني واستخدم خطيئتي نفسها ليصنع الخير. “حيث كثرت الخطيئة فاضت النعمة” (روما ٥: ٢٠). هذا الاكتشاف العظيم يولّد فيّ فرحًا، يولّد خجلاً لأنّي قاومتُ من يحبّني، يولّد فيّ تسامحًا لأنّ من غُفر له الكثير يغفر بدوره، يُسمعني عتابًا لذيذًا عذبًا: “هل ظننتَ أنّي أهملتك؟ حتّى لو نسيت النساء لن أنساك… يا قليل الإيمان لماذا شككتَ؟”
طريق التوبة هو طريق ضيّق وباب المصالحة باب ضيّق. ضيّق لا لأنّ الله يضيّق علينا، فهو يهب “الروح بلا حساب” (يوحنّا ٣: ٣٤). ولكنّه ضيّق لأنّه يتطلّب الصدق ومواجهة النفس. في شؤون الروح لا إمكانيّة للمواربة والاستسهال. كلّ ما يأتي إلى النور يصير نورًا، وكلّ ما يبقى في الظلمة يبقى ظلمة. لا يمكنني في آن معًا أن أطلب المصالحة وأن أدخل في مساومات. هذا لا يعني أنّ الخطيئة لم تعد عاملة فيّ، ولكن يعني أنّي اخترتُ أن يكون الله وحده إلهي وأتعاون معه على كشف خطيئتي بلا رياء. “أكتب إليكم بهذا لئلّا تخطئوا، وإن خطئ أحد فهناك شفيع لنا عند الآب وهو يسوع المسيح البارّ” (١يوحنّا ٢: ١).
لهذا يجعلني لقائي اليوميّ بالآب أفحص نفسي بجدّيّة ولكن بدون وسواس، بل بفرح من انتصر على الخطيئة لأنّه صار قادرًا على أن يسمّيها ويواجهها. كيف أفحص نفسي؟
الفخّ الكبير هو أن أفحص نفسي بناء على أفكاري المسبقة: أي أن أتحسّر على كلّ ما لا يعجبني بنفسي وأقرّر أن أحسّن من نفسي بقوّة الإرادة. هذا فخّ لسببين: أوّلاً لأنّه يعرّضني للعودة إلى شعور الذنب، ويجعل الفرّيسيّة مثالاً روحيًّا لي، فالفرّيسيّون في الإنجيل هم من كانوا بلا عيب بحسب أفكارهم المسبقة عن الله. وبالتالي بدل أن تكون التوبة اكتشافًا عظيمًا تصير مجهودًا مرهقًا وغير ثابت لتحقيق صورة عن نفسي تعجبني وتوهمني أنّي بتحقيقها أصير جديرًا بالحبّ. وثانيًا لأنّي بهذه الطريقة أضع كلّ “خطاياي” على مستوى واحد ولا أعود أنتبه إلى ما يريد الله أن يكشفه لي لأنّه نضج وحان وقت شفائه. لهذا أقترح أن أفحص نفسي بالطريقة التالية:
• آخذ وقتًا إضافيًّا خارج وقت التأمّل. أدخل في الصلاة كالعادة بتحضير القلب.
• أعيد إلى ذاكرتي الخيرات الّتي نلتها من الله: خلقني وافتداني ورافقني وعلّمني ويعدني بأن أشاركه حياته… حتّى أصل إلى شكر حقيقيّ عميق أعبّر له عنه.
• أطلب النعمة أن أعرف ما الّذي يقاوم عمله فيّ وأين يحاول قلبي الهروب من حبّه
• أراجع الفترة الماضية من حياتي (أراجع يومي إن كنتُ أقوم بهذا التمرين يوميًّا، أو أراجع الأسبوع أو الشهر الماضي) متوقّفًا على بعض النقاط: كيف تتطوّر علاقتي بالله، كيف تتطوّر علاقاتي الأساسيّة: شريك الحياة، العائلة، الأصدقاء، زملاء العمل أو الدراسة، كيف تتطوّر مصالحتي مع نفسي؟ أختار بعض المسائل الّتي تبدو لي أهمّ من غيرها وتحتاج إلى تعميق وأسأل نفسي: كيف يمكنني أن أشارك الله في مسيرة نموّي؟
• أتخيّل المسيح أمامي ينظر إليّ نظرة تشجيع وحنان. أطرح أمامه ما يشغل فكري وأطلب إليه أن يساعدني على الشفاء. ثمّ أكلّمه بما يخطر في بالي.
• أختم بصلاة الأبانا
ليس المهمّ أن أقوم بلائحة طويلة أو ببرنامج عمل، بل بما يلمس شعوري الّذي أرهفه حبّ الله، ويظهر له أنّه ذات أهمّيّة أكبر. فكثيرًا ما تكون خطايانا الظاهرة مجرّد نتائج لخطايا خفيّة. وبدل أن أضيّع الوقت في محاربة العوارض أستفيد من أن أواجه المصادر. أحيانًا أستفيد من ملاحظات الآخرين، فإذا تلقّيتُ ملاحظة من أحد، بدل أن أدافع عن نفسي أحتفظ بها إلى صلاتي لكي أرى ما هو حقيقيّ فيها لكي أستفيد منه.
سننظر إلى يسوع ينتشل رجلاً من عجزه، ولكن بعد أن يكشف له عن تواطؤه مع عجزه. من إنجيل يوحنّا (٥: ١-١٨)
خطوات التأمّل
• أتخيّل المشهد، كما رآه يسوع، مكان يتجمّع فيه المرضى يتلقّون العناية ويترجّون الشفاء. وأرى العليل منذ ٣٨ سنة. يسوع يرى علّة خفيّة في قلبه فيكشفها له: “أتريد أن تشفى؟” والرجل لا يستطيع أن يجيب نعم! وكأنّه مستريح في شقائه، يكفيه أنّ له عذرًا. أرى كيف يتحدّاه يسوع، كيف يراهن على رغبته المدفونة تحت يأسه. بعد أن أشبع من المشهد، وبعد أن أحاول أن أفهم ما يجري في قلب الرجل وما يجري في قلب يسوع، أعود إلى نفسي وأسألها: ماذا لو سألني يسوع أتريد أن تشفى، ماذا أقول؟ ما الّذي يحتاج فيّ إلى شفاء منذ زمن طويل وأنا أكتفي بالعذر وأخون رغبتي؟ أستقبل كلمة يسوع الّذي يراهن عليّ.
• “كان ذلك اليوم يوم السبت”. ما الّذي يجعل الناس لا ينظرون إلى عليل يمشي إلاّ لكي يلوموه على أنّه يحمل سريره يوم السبت؟ أحاول أن أفهم ما الّذي يجول في خاطر هؤلاء الناس، لماذا لا يفرحون لإنسان قام من كبوته؟ ما الّذي يجعلنا هكذا فاقدين شعورنا؟ أين يظهر ذلك في مواقفي أنا؟ كيف أحمي نفسي من هكذا موقف؟
• “أبي ما زال يعمل وأنا أعمل أيضًا.” سرّ يسوع هو الآب. أتخيّل يسوع وهو يقول هذا. أعيد إلى ذاكرتي مشاهد يسوع وهو يصلّي، وهو يعتمد ويتلقّى كلمة البركة، وهو يعلّم تلاميذه الصلاة… من هو الآب بالنسبة ليسوع؟ يسوع يعرض عليّ هذه العلاقة نفسها مع الآب لكي أكون ابنًا (ابنةً) مثله، فماذا أقول؟
• “فاشتدّ سعي اليهود لقتله.” بدون حكم وإدانة أحاول أن أفهم ماذا يحدث في قلوبهم. الخطيئة تكره المسيح، وخطيئتي أيضًا تكره المسيح. لذا من المهمّ أن أفهم ماذا يحدث في قلب هؤلاء الناس لكي أحمي قلبي.
لا أنسى أن أناجي الله بعد ذلك، ثمّ أختم بالأبانا. أراجع تأمّلي وأدوّن ما هو مفيد.
نصوص أخرى (للقراءة أو للتأمّل)
من العهد القديم
حزقيال ٣٧: ١-١٤
هوشع ٢: ١٦-٢٥
من المزامير
مزمور ١٠٣
مزمور ٩١
مزمور ٩٥
من العهد الجديد
لوقا ١٥: ١١-٣٢
لوقا ٧: ٣٦-٥٠
مرقس ١٠: ١٧-٢٢
اليوم الخامس: الرجاء
اليوم الخامس: الرجاء
ما السرّ الّذي يجعل يسوع راسخًا فيما كلّ أحد حوله متزعزع ومتذبذب؟ كيف يقف في الشدّة ويستمرّ في حبّه حتّى حين يبدو الحبّ مشروعًا يائسًا عقيمًا لا مستقبل له؟ سرّ يسوع هو الآب. يقول: “الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنت الإله الحيّ وحدك، ويعرفوا يسوع المسيح الّذي أرسلته.” (يوحنّا ١٧: ٣). ويسوع يكشف لنا عن سرّه، يعطينا سرّه، لا يحتفظ به لنفسه. لهذا يقول لتلاميذه: “لا أدعوكم بعد اليوم عبيدًا، لأنّ العبد لا يعلم ماذا يعمل سيّده، بل أدعوكم أحبّائي لأنّي أطلعتكم على كلّ ما سمعته من أبي” (يوحنّا ١٥: ١٥)، “في ذلك اليوم أنتم تطلبون من الآب باسمي، ولا أقول أنا أطلب منه لأجلكم، فالآب نفسه يحبّكم” (يوحنّا ١٦: ٢٦-٢٧). كلام يسوع يجعلني قادرًا مثله على الثبات في الشدائد. يقول أيضًا لتلاميذه: “أنتم الّذين ثبتّم معي في محنتي” (لوقا ٢٢: ٢٨). ما معنى أن نثبت في المحنة؟
حين يأتي زمن الشدائد يجتاحنا القلق وتكثر الكلمات المضلّلة من حولنا. فمنهم من يقول افعل هذا أو افعل ذاك. منهم من يقول لا تخف وآخرون يقولون ها هي النهاية قد حلّت. في زمن المحنة يجتاحنا السؤال عن المعنى. ما الّذي يحصل؟ لماذا يسمح الربّ بهذا؟ فيقول البعض إنّ الله يرسل المحنة ليعاقبنا، وآخرون أنّ الله براء من أحداث حياتنا، وآخرون يطمئنوننا أنّ مخاوفنا لن تلبث أن تتبدّد، وغيرهم يضع وصفات مُلهمة من مقدّسات تؤكل وتُشرب… ونصير كما يحذّر بولس: “كالأطفال تتجاذبهم أمواج المذاهب ويعبث بهم كلّ ريح فيخدعهم الناس ويحتالون عليهم بمكرهم ليضلّوهم” (أفسس ٤: ١٤). في زمن الشدائد يقول لي الآب في الخفية كلمة الرجاء، الكلمة الّتي تعطيني سببًا لأكمل الحياة، مرساة ترسّخني في الله. لا تعود كلمات الناس تجتاحني. أسمعها، لا أحكم عليها، بل أصغي إلى ما يقوله إلهي في قلبي وأتقدّم بثقة.
هل الله يرسل المحن ليعاقبنا أو ليطهّرنا؟ نقرأ ذلك أحيانًا في الكتاب المقدّس، ونتساءل كيف للّذي يقول كلمات البركة والرحمة ألاّ يتحنّن؟ ونسمع يعقوب الرسول يكتب: “إذا جُرّب أحد فلا يقُل إنّ الله يجرّبني، فالله لا يُجرِّبه الشرّ ولا يجرّب أحدًا” (يعقوب ١: ١٣). فعطيّة الله صالحة لا شرّ فيها، لأنّ الله نور لا ظلام فيه (١ يوحنّا ١: ٥). فالشدّة جزء من هذا العالم، لا يرسلها الله. ولكن كما أنّ القلق يعمل فينا بأفكار الخوف واليأس، كذلك الرجاء يعمل فينا، فنرى في الشدّة الحاضرة تعليمًا إلهيًّا يكشف لنا عن أنفسنا. فالشدّة ليست من الله، بل الرجاء من الله وهو الّذي يجعلنا نستخرج من الشدّة معنى ومغزى ودرسًا. فالرجاء عين جديدة تنظر إلى ما هو أبعد. حين انقضّ الجنود على يسوع ليعتقلوه، ماذا رأى بطرس؟ رأى رجالاً عنيفين يعتقلون صديقه، فرفع سيفه وهو يعلم أنّه لن يقدر عليهم. أمّا يسوع فماذا رأى؟ رأى الآب يناوله كأسًا، رأى الآب يدعوه إلى شهادة الحبّ الأسمى. هل الآب أرسل الجنود؟ حاشا. ولكنّ الآب همس بالرجاء في أذن ابنه المصغي دومًا إليه، ففهم يسوع أنّ الساعة قد أتت، وأنّ رفع السيف يأتي ضدّ الله. وهكذا الرجاء الّذي نستقبله في الصلاة يعيننا أن نستخرج معنى من هذه الأزمة الحاضرة.
هل يصحّ أن نقول للناس “لا تخافوا”؟ من أنت لتقول لي “لا تخف”؟ حين يقول الله لا تخافوا، يقيم نفسه ضمانة أنّه سيغلب الخوف. هو لا يطالبني بعدم الخوف، بل يعدني بأنّه أكبر من الّذي يخيفني. أمّا أنتَ، فبماذا تعدني؟ لا يقول الله “لا تخف” كما يقول “لا تقتل”. فكلمة “لا تقتل” تنهي عن الشرّ، أمّا “لا تخف” فتعد بالخير. تُقال “لا تقتل” للشرّير الّذي فيّ الّذي يحتاج إلى ضبط عنفه، أمّا “لا تخف” فتُقال للبارّ، لمريم، ليوسف، للشوق الّذي يسكنني إلى القداسة، ليُعلمني أنّ الأحداث لن تقضي على الحبّ. حين قال الأنبياء: “لا تخافوا” قالوها من قِبل الله، لا من قِبل أنفسهم. وفي أيّام إرميا، حين كان الشعب قلقًا من السبي، ظهر أنبياء يقولون “سلام، سلام”، أمّا إرميا فاتّهمهم أنّهم لا يتكلّمون باسم الله، لأنّه لن يكون سلام، بل سبي وضياع. ولكن لا نفقد الرجاء، فبعد السبي عودة وبعد الضياع هداية. لهذا لا نطمئن أنفسنا: “لن يصيبني الوباء، لن أعرف الجوع، لن أخسر شيئًا…” لأنّ الله وحده يقدر أن يقول ذلك. ولكنّ الله يقول لي حين يهمس بالرجاء: لن أنساك! هو الوحيد القادر أن يستخرج من الموت حياة ومن الحزن فرح، لأنّه “يقيم الأموات ويدعو إلى الوجود ما لم يكن موجودًا.” بكلمات الرجاء وحدها نثبت في قلب المحن. هذا سرّ يسوع!
سنتأمل كلمات يسوع بخصوص هدم الهيكل، وسنتلقّى كلمة الرجاء أمام عالمٍ يتهدّم… نقرأها في مرقس (١٣: ١-١٣)
خطوات التأمّل
• أرى التلميذ الّذي يكلّم يسوع على جمال الهيكل. أتخيّل حماسه: ما أجمل هيكلنا! يشبهني هذا التلميذ حين أعتزّ بكنيستي، بوطني، بعقيدتي، بطقوس العبادة. ما أجملها! ثمّ أسمع يسوع يقول: لن يُترك حجر على حجر إلاّ ويُنقض! كيف يقول يسوع هذا الكلمات؟ أتذكّر كم هو متعلّق بالهيكل منذ صغره، حين ترك أمّه وأباه ليبقى في الهيكل. وعندما كبر ورأى الهيكل يملأه الباعة بمساعي الربح الخاصّ جدل سوطًا وطردهم، حتّى تذكّر تلاميذه كلام المزمور: غيرة بيتك أكلتني! ومع ذلك يرى دمار الهيكل ولا ييأس. يقولها بغصّة، ولكن لا بيأس، لأنّ الله أعظم من الهيكل. أتخيّل هذا وأفكّر في نفسي: كيف أنّ تعلّقي بالأشياء يجعلني أنهار عند فقدانها، واليأس يأتي مكان الرجاء… وأصلّي!
• “إيّاكم أن يضلّكم أحد، فسوف يأتي كثير من الناس منتحلين اسمي”. أسمع هذا التحذير. ممّ ينبّهني يسوع؟ من أن أضع ثقتي في كلمات الناس. أرى كيف أنّي أحيانًا، مثل كثير من الناس، أتهافت هنا وهناك معتقدًا أنّ الخلاص في الأماكن أو في الممارسات… الرجاء ليس “هناك” بل هنا، في هذا الزمن الّذي أقضيه مع الآب.
• “لا بدّ من حدوثها… وهذا بدء المخاض”. لماذا يقول يسوع لا بدّ من حدوث المحن والمآسي؟ ربّما لأنّ العالم كلّه، مثل الهيكل، غير ثابت. “السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول”. كلمة الله تثبت، وكلّ شيء آخر ينهار. ولكن في هذا كلمة رجاء: هذا بدء المخاض، والمخاض يتمّ بولادة جديدة. وحدها عين الرجاء ترى في الألم مخاضًا، أي ولادة، فتستخرج معنى من عبثيّة العالم.
• “لستم أنتم المتكلّمين بل الروح القدس”. كلمة الرجاء الّتي أتلقّاها اليوم في الصلاة تصير كلمة رجاء في فمي عندما أشهد للآخرين. تجعلني نبيًّا، أي قادرًا أن أتكلّم باسم الله.
• “الّذي يثبت إلى النهاية فذاك الّذي يخلص”. من أين يأتي الثبات؟ يأتي من الثقة بالله، وهذه الثقة تحتاج إلى ألفة مع الله، إلى وقت أقضيه الآن أمامه حتّى أستطيع أن أثبت حين يأتي وقت الثبات.
لا أنسى أن أناجي الله بعد ذلك، ثمّ أختم بالأبانا. أراجع تأمّلي وأدوّن ما هو مفيد.
نصوص أخرى (للقراءة أو للتأمّل)
من العهد القديم
أشعيا ١٢: ١-٦
هوشع ١١: ١-٩
التكوين ٢٢: ١-١٨
التكوين ٣٢: ٢٣-٣٣
من المزامير
مزمور ١٨
مزمور ١٣٠
مزمور ٢٧
من العهد الجديد
يوحنّا ٦: ١-١٥
متّى ١٤: ٢٢-٣٣
روما ٨: ١٨-٢٨
عبرانيّين ١١: ١ – ١٢: ٣
اليوم السادس: الشفاعة
اليوم السادس: الشفاعة
حين أجلس مع الآب، لستُ وحدي. فما أنا اليوم هو حصيلة تاريخ بدأ منذ خلق العالم. حصيلة اختبارات ولقاءات وكلمات سمعتها وقلتها، وعلاقات بنتني أو هدمتني، وذكريات. أنا مولود في تاريخ سبقني، طبعني، وصرتُ مع الوقت شريكًا في صنعه. حين يباركني الآب ويقول عليّ “انت ابني الحبيب الّذي عنه رضيت” يتبارك فيّ كلّ هذا التاريخ. وحين أسبّح الله، أقود كلّ تاريخي إلى تسبيح الله. فأنا لستُ وحدي. إن امتنعتُ عن الحبّ أحجب عن كلّ تاريخي أن يصبّ في الحبّ، وإن أقبلتُ إلى الحبّ أقود معي الآخرين. لهذا فكلّ صلاة هي شفاعة. حين يطلب منّي أحد الصلاة لأجله، لا أدخل أمام الله ومعي لائحة طلبات وأسمّي هذا شفاعة! بل أدع نفسي أتأثّر بالشخص الّذي طلب الصلاة إلى أن أرغب أنا نفسي في خيره وازدهاره، وحين أدخل في الصلاة، تأثّري بهذا الشخص يجعله معي. الشفاعة ليست تمتمة أسماء وطلبات ننساها ما أن نقولها، بل هي سماح للآخرين بأن يطبعوا وجودي أمام الله حتّى يصير الخير الّذي أطلبه لهم جزءًا لا يتجزّأ من الخير الّذي أطلبه لنفسي. مثلاً حين نظر يسوع إلى الجموع وتحنّن عليها حتّى قال لتلاميذه: “اطلبوا من ربّ الحصاد أن يرسل فعلة لحصاده” (متّى ٩: ٣٦-٣٨) من سيكون هؤلاء الفعلة إن لم يكونوا التلاميذ أنفسهم الّذين يصلّون؟ من يصلّي من أجل الآخرين يضع نفسه بتصرّف الله من أجلهم. ولكن إن كان الأمر كذلك، فمن يستطيع على الشفاعة؟ من يجرؤ على أن يمثل أمام الله من أجل الآخرين؟ من يبلغ به الحبّ هذا المبلغ؟
هل تساءلتم لماذا تنظر الكنيسة باستمرار إلى المسيح المصلوب، مع أنّها تؤمن أنّه قام من بين الأموات؟ هل تساءلتم لمَ إيماننا بالقيامة لا يُنسينا الصليب؟ لأنّ المسيح على الصليب هو الّذي أخذ مكان الشفاعة. هذا هو الإنسان القادر على الشفاعة، أي الّذي وضع نفسه بتصرّف الله من أجل البشر، وانطبع بنا حتّى “جعله الله خطيئة” (٢كورنتس ٥: ٢١) ليقود تاريخ خطيئتنا إلى المصالحة.
كلّ صلاة هي إلى حدّ ما صلاة شفاعة، لأنّي بالصلاة أصالح تاريخي مع الله. وهذه الشفاعة تجعلني أزداد انفتاحًا على البشر وأزداد رغبة في أن أكون أمام الله من أجلهم. في الصلاة يجعلني الله أكثر تأثّرًا بالبشر، لا انقيادًا لهم، فأفرح مع الفرحين وأبكي مع الباكين (روما ١٢: ١٥). لا يستطيع المصلّي أن يتحزّب. قد يكون من رأي فلان لا من رأي فلان، ولكنّ رأيه لا يسجنه ولا يحدّ حبّه. فيقول مع بولس: “ومع أنّي حرّ من جهة الناس جميعًا فقد جعلتُ من نفسي عبدًا لجميع الناس كي أربح أكثرهم، فصرتُ لليهود كاليهوديّ لأربح اليهود، وللّذين في حكم الشريعة كالّذي في حكم الشريعة لأربح الّذين في حكم الشريعة، وصرت للّذين لا شريعة لهم كالّذي ليس له شريعة لأربح الّذين ليس لهم شريعة، وصرتُ للضعفاء ضعيفًا لأربح الضعفاء، وصرتُ للناس كلّهم كلّ شيء لأخلّص بعضهم مهما يكن الأمر.” (١ كورنتس ٩: ١٩-٢٣). ما أبعد هذا الكلام عن تحزّبنا. المسيح الّذي قال لي أن أترك القربان على المذبح لأصالح أخي قبل أن أقدّم قرباني (متّى ٥: ٢٣-٢٤)، هل غيّر رأيه وجعل ذبيحة القربان أهمّ من الأخ؟ حين يحاسبنا الرسول بولس على المناولة بدون استحقاق، يدور كلامه على اهتمامنا بالقريب أو لا مبالاتنا به (١كورنتس ١١: ٢٧-٣٣). لأنّ ما يناقض جسد المسيح هو رفض الأخ، رفض الشفاعة، هذا وهذا فقط هو ما يجعل ذبيحتي غير طاهرة.
قد يقول البعض: أريد أن أحبّ أخي ولكنّي لا أستطيع! أسمع ذلك وأفهمه لأنّي أنا أيضًا لا أستطيع. الصوم والتقشّف أسهل. قضاء الليل في السجود أمام القربان أسهل. حتّى القيام بالمعجزات أسهل من حبّ القريب. لهذا يقول يسوع: هذا شيء يعجز الناس ولا يعجز الله فإنّ الله على كلّ شيء قدير (مرقس ١٠: ٢٧). ولهذا أنا أحتاج إلى أن أصلّي. سأتعلّم ذلك على يد يسوع الّذي صلّى إلى الآب طوال حياته البشريّة، وهو الآن عن يمينه يشفع لنا (روما ٨: ٣٤). سنصلّي مع مشهد الغسل في يوحنّا (١٣: ١-١٧)
خطوات التأمّل
• “كان يسوع يعلم أن قد أتت ساعة انتقاله عن هذا العالم إلى أبيه”. أتخيّل شعور يسوع وهو يقضي وقته الأخير مع تلاميذه ويريد أن يسلّمهم أعمق ما لديه. “بلغ به الحبّ إلى أقصى حدوده”. أتخيّل التلاميذ يشعرون بهذا الحبّ، وبأنّهم حاضرون في صلاة يسوع مع أبيه. وأفكّر في نفسي كيف أنّ يسوع يعتبرني من ضمن تلاميذه لأنّي أعطي الوقت لأقرأ الإنجيل ولأدعه يطبعني. فأنا أيضًا حاضر في صلاة يسوع لأبيه. أتذوّق هذا الشعور أنّ الابن يكلّم الآب عنّي أنا.
• “أخذ يغسل أقدام التلاميذ”. أتخيّل الحوار بين يسوع وبطرس. لماذا لا يريد بطرس أن يغسل يسوع قدميه؟ نحن نخجل من ضعفنا أمّا يسوع فلا يخجل، بل يريدنا أن نكشف عنه. يأخذ خطيئتي ويعطيني قداسته: “أخذت ما لنا ووهبتنا ما لك!”. أتذوّق تواضع يسوع ورغبته في أن يتّحد بي آخذًا على عاتقه خطيئتي ومتحمّلاً مسؤوليّتها معي.
• “أمّا وقد علمتم هذا فطوبى لكم إذا عملتم به”. ما قام به يسوع لأجلنا يجعلنا نقوم به الواحد من أجل الآخر. ما الخطوة الّتي يمكن أن أقوم بها اليوم الّتي بها أشبه يسوع أكثر؟
لا أنسى أن أناجي الله بعد ذلك، ثمّ أختم بالأبانا. أراجع تأمّلي وأدوّن ما هو مفيد.
نصوص أخرى (للقراءة أو للتأمّل)
خروج ٣: ١-١٢
أشعيا ٥٣
عدد ١٤: ١-١٩
من المزامير
مزمور ٢٤
مزمور ٧٢
من العهد الجديد
لوقا ١٠: ٢٥-٣٧
يوحنّا ٨: ١-١١
يوحنّا ١١
يوحنّا ١٧
اليوم السابع: رفيق يسوع
اليوم السابع: رفيق يسوع
حين بدأ يسوع تعليمه بين الناس، لم يتكلّم عن نفسه، بل كشف لهم عن الآب، علّمهم عن ذاك الحبّ الّذي خلقهم وأنماهم ويريد أن يخلّصهم، عن ذاك الشوق الّذي يسكن في قلوبهم وهم لا يعرفونه. شبّه ملكوت الله بكنز مختبئ في حقل، وبلؤلؤة نادرة يبيع الإنسان كلّ شيء ليحصل عليها، وكأنّه يقول لهم إنّ كنزهم مختبئ في قلوبهم، هو الآب الّذي يكلّمهم في الخفية، بعيدًا عن المظاهر. علّمهم أن يُصغوا إلى نداء الخفية. لهذا يقول: “ما من أحد يستطيع أن يقبل إليّ إلاّ إذا اجتذبه الآب الّذي أرسلني” (يوحنّا ٦: ٤٤). الآب الّذي يكلّمنا في الخفية يجعلنا نصغي إلى كلام الإنجيل وننجذب إليه. وإذا كانت الجموع تنجذب إلى يسوع فذلك لأنّه كان يعلّمهم بسلطان، أي كأنّه يكلّمهم من داخل قلوبهم. عمّ يكلّمهم؟ عن بركة الآب لهم، عن شوقه إليهم، عن رغبته فيهم. “لا تخف أيّها القطيع الصغير، فقد حسن لدى الله أن ينعم عليكم بالملكوت” (لوقا ١٢: ٣٢).
ولكنّ يسوع جمع حوله تلاميذ، ومنهم اختار رسلاً يلازمونه، يصيرون له رفاقًا. لأنّه كما يقول هو نفسه: “جئتُ ألقي على الأرض نارًا وما أشدّ رغبتي في أن تكون قد اشتعلت” (لوقا ١٢: ٤٩) ويقصد الروح القدس الّذي في قلبه ويريد أن يهبه لتلاميذه لكي بدورهم يشعلون به العالم. هؤلاء التلاميذ، لكي يعلّموا مثله بسلطان، يريدهم أن يختبروا الآب مثله، أن يعرفوه كما هو يعرفه، كلّ واحد على قدر استطاعته وعلى إيقاعه الخاصّ. ولكي يعرفوا عمق الله، كان لا بدّ أن يكتشفوا غفرانه، وبالتالي أن يتعرّفوا إلى خطيئتهم وكيف يغفرها الله. رفيق يسوع هو خاطئ قد نال الرحمة وعرف الغفران. لا يستطيع أن يكون رفيقًا ليسوع من يظنّ أنّه أفضل من غيره، أو من يظنّ أنّه يستحقّ السماء استحقاقًا. لكي يجعل يسوع من تلاميذه رسلاً كان لا بدّ لهم من التعرّف إلى الرجاء الّذي يعطيهم ثباتًا، فلا تقودهم المحنة إلى الانغلاق على ذواتهم، بل تقودهم إلى التضامن مع الآخرين، إلى حسّ المسؤوليّة تجاههم، إلى الشفاعة.
إنّ مسيرتنا في هذه الرياضة هي مسيرة التلمذة على يسوع. هدفها أن توقظ فينا النار الّذي أشعلنا بها الآب منذ عمادنا والّتي تختبئ تحت رماد حياتنا اليوميّة وهمومنا المستمرّة. هدف هذه الرياضة أن تجعلنا رفاقًا ليسوع، كلّ بحسب ظروفه وبحسب إيقاعه الخاصّ، ولكن بشكل حقيقيّ وواقعيّ. فكما الرياضة البدنيّة تنشّط الجسم ليبقى صحيحًا معافىً ويقوم بأعماله العاديّة، كذلك الرياضة الروحيّة تنشّط الروح لتبقى قادرة على القيام بعملها، أي أن تثبت في الرجاء وتنمو في الحبّ. ونحن الّذين خضنا هذه الأيّام الأخيرة في كلمة الله، سواء أوجدنا سهولة أم صعوبة، ليس هذا المهمّ، ولكنّنا سمحنا لكلمة الله أن تقوم بعملها فينا، مستعدّون اليوم إلى أن نُقبل إلى يسوع لنكون تلاميذه. طريق التلمذة طويل، ولكنّنا نعرف ما ينتظرنا: من البركة إلى الشفاء والرحمة، إلى الغفران إلى الرجاء فإلى الشفاعة.
رفقة يسوع تطبعني بطباع يسوع، تجعل في ّ الشعور الّذي ليسوع، تعطيني فكر يسوع، تُضرمني بروح يسوع. وهذا يأتي من رفقته، لا بالمجهود. حين قرأتُ قديمًا كلمة يوحنّا الرسول: “وصاياه ليست ثقيلة الحمل” (١يوحنّا ٥: ٣) تفاجأتُ كثيرًا. لأنّي كنتُ أظنّ أن وصايا الإنجيل صعبة، وكأنّ كلّ ما أحبّه أنا لا يحبّه الله، وأنّه عليّ أن أحصل على السماء بأن أضحّي بما أحبّ. ولكنّي مع النضوج اكتشفتُ ما معنى “وصاياه ليست ثقيلة الحمل”، فما هو ثقيل عليّ أن أقوم به لأنّه واجب مفروض، يصير سهلاً جدًّا حين أقوم به لأجل الصداقة. صداقة المسيح تزرع الإنجيل فينا فينمو وحده، ويغيّر قلبي. منذ الآن لن أقرأ الإنجيل لكي “أرضي الله” أو لكي “أعمل عملاً حسنًا” وآخذ ثوابه، بل لكي أعرف يسوع معرفة أقرب، فأحبّه حبًّا أوفر، وأتّبعه اتّباعًا أوثق. ليس شيء في هذه الدنيا أغلى على قلبي من أن أحبّ المسيح.
منذ الآن هدف تأملاتنا اليوميّة ستكون التعرّف إلى يسوع بشكل أقرب. فلنراقبه، كيف يشعر، كيف يفكّر، كيف يتصرّف، ما هو مهمّ في عينيه، ما يلفت انتباهه. فلنقرأ يسوع حين نقرأ الكتاب، ولندع الإنجيل يقرأنا، فلنسمح له أن يكشف عن قلوبنا وأن يحفر فيها وصاياه. سنتأمّل اليوم كيف بطرس مشى على الماء مثل يسوع، في إنجيل متّى (١٤: ٢٢-٣٣).
خطوات التأمّل
• “وكان في المساء وحده هناك”. يسوع على الجبل يصلّي، وتلاميذه يصارعون العاصفة. ولكنّهم حاضرون في صلاته كما هو حاضر في صراعهم. مثل في زمننا: الكنيسة تواجه الرياح ويسوع عن يمين الآب يشفع لنا. أتخيّل يسوع يصلّي وأطلب منه من جديد أن يعلّمني أن أصلّي في قلب الصراع.
• “ثقوا، أنا هو، لا تخافوا”. أرى يسوع آتيًا إلى تلاميذه ماشيًا على البحر. وكأنّه يقول: هذا الّذي تخاف منه، ها أنا أمشي عليه، وأنت أيضًا ستمشي عليه. البحر والعواصف تشبه حالة قلبي: أفكار ومشاعر مضطربة، طاقة وعنف يخيفانني، أعماق أخشى أن أغرق فيها. ويسوع يقول لي: هذا الّذي تخاف منه، تستطيع أن تمشي عليه.
• “إن كنتَ إيّاه فمرني بأن آتي إليك على المياه”. بطرس والتلاميذ يريدون أن يميّزوا هل ما يرونه شبح أو وهم، أم هو حقًّا رفيقهم ومعلّمهم يسوع؟ بطرس يعرف كيف يميّزه: وحده يسوع لن يحتفظ لنفسه بالمجد بل يشاركني فيه! وحده يسوع يتجرّأ أن يطلب منّي المستحيل! وحده يسوع يتغلّب على خوفي. أرى بطرس يمشي خطوات، ثمّ ينظر إلى نفسه وإلى الريح فيبدأ بالغرق. أسمعه يصرخ إلى يسوع ويسوع ينقذه.
• “أنت ابن الله حقًّا”. أقف أمام يسوع وأكرّر له هذه الكلمات وأسجد.
لا أنسى أن أناجي الله بعد ذلك، ثمّ أختم بالأبانا. أراجع تأمّلي وأدوّن ما هو مفيد.
نصوص أخرى (للقراءة أو للتأمّل)
من العهد القديم
أشعيا ١١: ١-٩
أشعيا ٤٢: ١-٩
إرميا ٣١: ٣١-٣٤
١ملوك ١٧: ٨-٢٤
١ملوك ٣: ٤-١٥
من المزامير
مزمور ١٩
مزمور ٧٣
مزمور ١١٢
من العهد الجديد
فيليبي ٢: ١-١١
لوقا ٥: ١-١١
لوقا ١٩: ١-١٠
يوحنّا ٤: ١-٢٦
مرقس ٨: ٣٤-٣٨
اليوم الثامن: جسد المسيح
اليوم الثامن: جسد المسيح
المسيرة الّتي قمنا بها في الأسبوع المنصرم تقودنا إلى اكتشاف ما هي الكنيسة حقًّا. ليست الكنيسة أوّلاً مؤسّسات، ولا هي سلطات ورجال دين وتعاليم وطقوس وشرائع. هذه كلّها حسنة ومهمّة وتعبّر عن مشيئة الله، ولكنّها ليست الكنيسة. الكنيسة هي جسد المسيح. هي كلّ ما يبنيه الله في تاريخنا حين يكلّم كلّ واحد في قلبه ويقوده إلى شوقه العميق، فيصير مثل المسيح إنسانًا حرًّا، قادرًا على الحبّ، بركة وشفاء للعالم. الكنيسة هي جسد، فيها نحن أعضاء بعضنا لبعض. تنتعش الكنيسة حين يثبت كلّ عضو في المسيح، وتذبل الكنيسة حين يبتعد كلّ عضو عن المسيح. لهذا فإنّ رياضتنا منعشة للكنيسة، لأنّها تجعل كلًّا منّا مسؤولاً في كنيسة المسيح، لا يحتاج إلى من يقول له أن يصنع الخير، لأنّ الخير يجري منه تلقائيًّا، على قدر ما يثبت في لقاء الخفية مع الآب.
في نهاية هذه الرياضة أقترح على كلّ مشارك أن يفتح دفتره الّذي دوّن فيه اختباره، ويقرأ ما دوّنه منذ اليوم الأوّل. كلّ تأمّل قام به، سواء أكان سهلاً أو صعبًا، مليئًا بالأفكار أو مملّاً، كان يزيده التصاقًا بالمسيح. الرياضة لا تنجح أو تفشل. مثل الرياضة البدنيّة، أحيانًا أقوم بها بنشاط وأحيانًا على مضض، لكنّها دومًا تحرّك عضلاتي وتنشّط دورتي الدمويّة وتحفظني من الخمول. وهكذا الرياضة الروحيّة. تحرّك فكري وقلبي بكلمة الله. وحين أقرأ ما دوّنته، أحاول أن أتذوّق من جديد ما تأمّلتُ فيه. ما الّذي يجذبني بشكل خاصّ؟ ما الّذي يتحدّاني؟ ما الّذي يبدو لي أنّه عليّ أن أحتفظ به من الرياضة فلا أنساه؟ أحاول أن ألخّص رياضتي في جملة أو جملتين، كما لو كنتُ أروي خبرتي لأحد.
بدل التأمّل أقترح عليكم قراءة من رسالة القدّيس بولس إلى أهل أفسس (٤: ١-١٦)
٤ 1 فأُناشِدُكم إِذًا، أَنا السَّجينَ في الرَّبّ، أَن تَسيروا سيرةً تَليقُ بِالدَّعوَةِ الَّتي دُعيتُم إِلَيها، 2 سيرةً مِلؤُها التَّواضُعُ والوَداعَةُ والصَّبْر، مُحتَمِلينَ بَعضُكُم بَعضًا في المَحبَّة 3 ومُجتَهِدينَ في المُحافَظَةِ على وَحدَةِ الرُّوحِ بِرِباطِ السَّلام. 4فهُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد، كما أَنَّكم دُعيتُم دَعوَةً رَجاؤُها واحِد. 5وهُناكَ رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ ومَعْمودِيَّةٌ واحِدة، 6 وإِلهٌ واحِدٌ أَبٌ لِجَميعِ الخَلْقِ وفوقَهم جَميعًا، يَعمَلُ بِهم جَميعًا وهو فيهِم جَميعًا.
7 كُلُّ واحِدٍ مِنَّا أُعطيَ نَصيبَه مِنَ النِّعمَةِ على مِقْدارِ هِبَةِ المسيح (…) 11وهو الَّذي أَعْطى بَعضَهم أَن يَكونوا رُسُلاً وبَعضَهم أَنبِياء وبَعضَهم مُبَشِّرين وبَعضَهم رُعاةً ومُعلِّمين، 12لِيَجعَلَ القِدِّيسينَ أَهْلاً لِلقِيامِ بِالخِدمَة لِبِناءِ جَسَدِ المسيح، 13 فنَصِلَ بِأَجمَعِنا إِلى وَحدَةِ الإِيمانِ بِابنِ اللهِ ومَعرِفَتِه ونَصيرَ الإِنسان الرَّاشِد ونَبلُغَ القامةَ الَّتي تُوافِقُ كَمالَ المسيح. 14فإِذا تَمَّ ذلِكَ لم نَبْقَ أَطْفالاً تَتقاذَفُهم أَمْواجُ المَذاهِب وَيعبَثُ بِهِم كُلُّ رِيح فيَخدَعُهمُ النَّاسُ ويَحتالونَ علَيهم بِمَكرِهِم لِيُضِلُّوهم.15وإِذا عَمِلْنا لِلحَقِّ بِالمَحبَّة نَمَونا وتَقدَّمْنا في جَميعِ الوُجوه نَحوَ ذاك الَّذي هو الرَّأس، نَحوَ المسيح: 16فإِنَّ به إِحكامَ الجَسَدِ كُلِّه والتِحامَه، والفَضْلُ لِجَميعِ الأَوصالِ الَّتي تَقومُ بِحاجَتِه، لِيُتابِعَ نُمُوَّه بِالعَمَلِ المُلائِمِ لِكُلٍّ مِنَ الأَجْزاء وَيبْنِيَ نَفسَه بِالمَحبَّة.
فلنقرأ هذا النصّ عدّة مرّات، حتّى ننطبع فيه. وأرجو لقاءكم في رياضة جديدة. بركة الله عليكم أجمعين.