خلّيك بالبيت
المرحلة الثانية
الأب داني يونس اليسوعيّ
ما يشغلني في هذه الأيّام الصعبة الّتي نجتازها هو ألاّ أكون على مستوى الزمن الحاضر. علمتُ منذ صغري أنّ الأيّام تعبر وما من سبيل لإعادتها، وتصالحت منذ زمن مع شعوري بالهدر المستمرّ، ولا يغيب عن بالي أنّ الزمن الّذي يُنمي الزرع وينضج النفس هو هو الزمن الّذي يأخذ نصيبه من كلّ جسم. وليست الأزمة الحاضرة مفاجأة إلاّ لمن نَسيَ أنّ «لكلّ شيء تحت السماء وقتًا» (سفر الجامعة، ٣). فلا تشغلني خسارة الوقت. ولكن ما أخشاه هو أن تعبر الأيّام ولا أنتبه إلى أن أكون على مستواها. ولهذا أنظر إلى المسيح بإعجاب، هو الّذي، حين « أتت الساعة» (يوحنّا ١٢) لم يغفل عنها ولا هرب. اضطرب كما يضطرب البشر، ولكنّه لم يغفل ولم يهرب. بل وجد اسمه في قلب العاصفة. أخذ مكانه وحقّق نفسه. لبّى دعوته. ما يقلقني في العاصفة ليس أنّها تأخذ ما ظننته ثمينًا، بل أنّها تأتيني بما هو أثمن وأسمى، وأخشى أن أمرّ به مرور الكرام ولا أحفل.
«ماذا تريد؟» هذا هو السؤال المؤرق الّذي تحمله العاصفة. سليمان طلب قلبًا فهيمًا، ليكون على مستوى مسؤوليّته (سفر الملوك الأوّل/ ٣: ٤-١٥)، وبرطيماوس الأعمى طلب أن يبصر، ليكون على مستوى قيمته وحياته (مرقس ١-: ٤٦-٥٢)، وتلميذا يوحنّا أجابا: «أين تقيم» (يوحنّا ١: ٣٩-٤٢) ليكونا على مستوى رغبتهما. ماذا أريد؟ أن أكون على مستوى دعوتي، على مستوى اسمي، على مستوى الزمن الحاضر.
في بداية زمن الجائحة، طلب إليّ أَخَوان حبيبان من إخواني رياضة روحيّة للناس الّتي عليها أن تلزم البيت بلا استعداد ولا كلمة سند. فكانت «خلّيك بالبيت»، رياضة روحيّة تُقام في المنزل، وتقوم على النظر إلى المسيح لكي نأخذ عنه سرّه. سرّ المسيح هو الآب، الّذي ما انفكّ يسوع يكشفه لنا. تمتدّ الرياضة على مدى أسبوعين، وقد كانت لي مناسبة للصلاة، كما كانت لآخرين شاركوني خبرتهم. وهذه بداية لسلسلة رياضات أنشرها في هذا الزمن العصيب، لعلّها تساعد ممارسيها على أن يجدوا اسمهم الخاصّ في قلب العاصفة، فيكونوا حقًّا على مستوى الزمن.
الأب داني يونس
راهب يسوعيّ
٢١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠
اليوم الأوّل: هاءنذا
“لكلّ شيء تحت السماء وقتٌ” (سفر الجامعة، الفصل ٣). للحياة وقت وللموت وقت، للعمل وقت وللراحة وقت، للبكاء وقت وللفرح وقت… كلّ شيء له وقته. والحكمة تقوم على أن أكون على مستوى الزمن الّذي أنا فيه. حين يستدعيني الزمن الحاضر لخدمة القريب، لا تعود الشعائر الدينيّة حكمة بل تصير هروبًا. حين يستدعيني الزمن الحاضر للصمت، لا يعود كلامي مصدر تعزية، بل مصدر إزعاج. حين يستدعيني الزمن الحاضر للانتظار لا يعود العمل التزامًا ومسؤوليّة بل يصير هروبًا. لكلّ شيء وقتٌ وإن لم أميّز الأوقات لا أكون في الحكمة بل في التفاهة.
علاقتنا بالزمن معقّدة، فأحيانًا نريد أن نستغلّ الزمن ولا نضيّع الوقت، وأحيانًا نقتل الوقت خوفًا من الضجر. وحين يفرض علينا الواقع وقتًا نظنّه لا فائدة فيه، نتوتّر ونغضب. ولكنّ الزمن يكمل طريقه ولا يعود إلى الوراء. مرور الزمن يخيفنا لأنّه يُشعرنا بأنّنا لم نكمل ما علينا إكماله، وكأنّ الفرص تفوتنا وزمن حياتنا يهرب منّا. ولكنّ الزمن لم يُعطَ لنا لكي نستغلّه أو نقتله، بل لكي نحياه. الزمن هو زمن الحياة. يوصينا بولس الرسول قائلاً: “افتدوا الزمن” (أفسس ٥: ١٦ ثمّ في قولوسي ٤: ٥) ما معنى أن نفتدي الزمن؟ يعني أن نكتسب له معنى. بدلاً من أن نقلق من مرور الزمن، وأن نضطرب لضياعه، نحاول أن نكون على مستواه، فاهمين ما الّذي يعطيه معنى وفائدة.
لكلّ شيء وقتٌ ولكن يقول المزمور ٣٤: “أبارك الربّ في كلّ حين، تسبحته في فمي على الدوام”. ليس من وقت محدّد لأبارك الربّ بل كلّ وقت هو وقت التسبيح. ما يعني هذا؟ يعني أنّ مباركة الله لا تتمّ في الصلاة فحسب، لأنّ للصلاة وقتًا، ولا تتمّ في الخدمة، لأنّ للخدمة وقتًا، أما مباركة الله ففي كلّ وقت. أن أبارك الله يعني أن أحيا كلّ زمن بحسب منطقه، أن أكون على مستوى الزمن الحاضر.
ماذا يعني أن أبارك الله؟ أليس الله هو الّذي يباركنا؟ الله يباركني يعني أنّه يقول نعم لوجودي، ويجعلني أرغب في أن أكون من أنا ويصالحني مع نفسي. فما معنى أن أبارك أنا الله؟ أن أبارك الله يعني أن أقول نعم للّذي يقول نعم لوجودي. أن أبارك الله هو أن أسمح له بأن يصالحني مع ذاتي، فأرغب في أن أكون من أنا. الله يباركني بأنّه يخلقني. عمل الخلق هو بركة مستمرّة. بسبب مفهوم وثنيّ يعمل فينا، نظنّ أنّ الله خلقنا في الماضي وأعطانا كلّ شيء ونحن الآن مدينون له بكلّ شيء. وبالتالي لكي نباركه يجب أن نشكره على كلّ شيء ونطيعه في كلّ شيء، وهو كشف لنا عن مشيئته في الشرائع الّتي علينا أن نتّبعها لإرضائه. هذه الصورة عن الخلق لا تسمح لنا بعلاقة بنويّة مع الله. بل تبقينا في علاقة عبوديّة يظهر فيها الله وكأنّه “إله الأمر الواقع” الّذي يجب إرضاؤه. لهذا يشوب علاقتنا بالله حزن قديم، يظهر في العنف أحيانًا وفي اليأس أحيانًا، فنقول: كل مين خلق علق! وسرّيًّا نلوم الله على أنّه لم يخلقنا كما نريد. إن كنّا مدينين لله في كلّ شيء ألا نسأل أنفسنا، ولو سرّيًّا، لماذا خلقني الله؟ ليتني لم أكن! كيف أجد عليّ دينًا لم أختره؟ بل كيف أشكر الله وأنا ملزمٌ بشكره؟ هذا ما يجعل علاقتنا بالزمن صعبة، فنحن نهرب من حزننا القديم بأن نملأ الوقت بوهم الفائدة، وحين نمرض أو نكبر في السنّ، أو نخسر عملنا، يصير الزمن صعبًا لا يُطاق. ولكنّ الله مختلف عمّا نظنّ، والخلق ليس مأزقًا نجد أنفسنا فيه. فما هو الخلق؟
يقول سفر الحكمة (١١: ٢٤) “أنت يا ربّ تحبّ كلّ ما خلقت، فلو لم تحبّه لما كوّنته، وكيف يثبت شيء إن لم تدعه إلى الوجود؟” الخلق هو دعوة إلى الوجود. دعوة مستمرّة، تنتزعني من العدم وتنتشلني من التفاهة. الخلق كلمة بركة تنقذني من رفضي لذاتي ومن حزني القديم المتوارث. يقول لي الله: “كن، أريدك، أحبّك”، أدعوك إلى الوجود، أستدعيك من هروبك وأقيمك في مكانك. هذه البركة الأصليّة تُخرجني من المقارنة ومن الرغبة في أن أكون آخر، وتجعلني أستقبل زمن حياتي كما هو. الخلق دعوة مستمرّة إلى الوجود، لا تطالبني بشيء ولا تفرض نفسها عليّ، بل تناديني إلى ذاتي، لكي أستعيد إنسانيّتي.
نصل الآن إلى هذا: أن أبارك الله يعني أن ألبّي دعوته إلى الوجود، أن أجيب على من يقول لي “كن” بكلمة “هاءنذا”. هاءنذا! هذه هي كلمة العبادة بالروح والحقّ الّتي تكلّم عنها يسوع (يوحنّا ٤: ٢٣). يقول المزمور ٤٠: “ذبيحة وتقدمة لم تشأ، لكنّك فتحتَ أذنيّ، ولم تطلب محرقة وذبيحة خطيئة، حينئذٍ قلتُ هاءنذا آتٍ، فقد كُتب عليّ في طيّ الكتاب، هواي أن أعمل بمشيئتك يا الله، شريعتك في صميم أحشائي.” هاءنذا هي عكس الهروب، عكس التفاهة. هاءنذا هي حضور كما أنا، هي قناعة راسخة بأنّ ما أنا عليه يكفي، بل حسن جدًّا. وهذا الموقف يجعلني على مستوى الزمن الحاضر.
كان يسوع كلّه هاءنذا. الرسالة إلى العبرانيّين تطبّق عليه كلمات المزمور ٤٠. هو الّذي “هواه أن يعمل بمشيئتك يا الله”، وفيه تتحقّق نبوءة إرميا “أكتب شريعتي في قلوبهم” (إرميا ٣١: ٣١-٣٤). هو الّذي قال: “طعامي أن أعمل بمشيئة الّذي أرسلني” (يوحنّا ٤: ٣٤). لهذا كان يسوع الجواب الحقيقيّ لجوع العالم وشوقه وألمه، لأنّه كان على مستوى الزمن، على مستوى شوق الله ورغبته وحبّه. لهذه الدرجة كان يسوع “هاءنذا” حتّى إنّه وهو في الموت، حين ناداه الآب لبّى النداء وقام من بين الأموات. في رياضتنا اليوم نريد أن ننظر إلى يسوع-هاءنذا، وننطبع به. وإن شعرنا بعجزنا عن أن نكون مثله لا نقلق، فهو يعرفنا، وقدرته تفوق ضعفنا. يكفينا أن يكون معلّمنا، فلنصغِ إليه، ولنتعلّم منه… سنشاهده في لوقا ٤: ١٤-٣٠.
خطوات التأمّل
بعد الصلاة التمهيديّة، أقرأ النصّ وأتخيّل المكان الّذي حدث فيه (في بلدة الناصرة على الجبل) وأطلب نعمة: “ربّي، اجعلني على مستوى الزمن الّذي أعيش فيه”. ثمّ أنطلق في التأمّل.
النقاط الّتي أقترحها هنا هي للمساعدة. من المفضّل الاستغناء عنها حين يكون التأمّل سلسًا وسهلاً
• أشاهد يسوع وهو يقرأ كلمات أشعيا النبيّ. يقرأها ويستقبلها على أنّها كُتبت بشأنه هو. كما لو كانت برنامجًا ينتظر من يلتزمه، أو مكانًا ينتظر من يدخل فيه. ويسوع يجعل من نفسه جوابًا ويقول “هاءنذا”. أحاول قدر الإمكان أن أتذوّق شعور يسوع، وقراره. ثمّ أعود إلى نفسي، أنا قارئ الكتاب المقدّس، حتّى لو لم أكن مخلّص العالم، لكنّي بقراءتي أجد مكاني. أطلب من الله أن أكون “هاءنذا” في ظروفي الواقعيّة.
• “أما هذا ابن يوسف؟” أتنبّه كيف يحكم الناس: ابن من هذا؟ من أين يأتي؟ ينظرون إلى الإنسان من جهة الجسد لا الروح. يقولبونه بحسب مفاهيمهم. أنظر إلى تفاهتنا حين نربط الإنسان بنسبه أو بأفكارنا المسبقة عنه وعن بيئته. أنظر أيضًا إلى تعصّبنا: “يا طبيب اشفِ نفسك!” أنت من عندنا فعليك أن تفضّلنا. أقارن بين نظرة يسوع الّذي يريد خلاص العالم، ونظرتهم الضيّقة الّتي تقارن، وتفاضل، بمنطق الوطن، والدين، والجنس، والعرق…
• ردّة فعل يسوع تثير الغضب. يذكّرهم بأنّ الله في الكتاب المقدّس التفت إلى الغرباء وباركهم. يسوع لا يطلب نجاحًا جماهيريًّا ولا يسعى إلى إرضاء الناس والأذواق، بل إلى قول الحقّ. أرى كيف يحاولون قتله وأتكّر كيف كلمات يسوع ستقوده إلى الصليب لأنّه لا يكذب.
بعد المناجاة أختم بصلاة الأبانا وأراجع تأمّلي وأدوّن ما لفت انتباهي.
لن أعطي بعد الآن نصوصًا إضافيّة. يمكن إعادة التأمّل بالنصّ نفسه لمن يريد، أو حتّى تطبيق خطوات التأمّل على نصّ الحديث. أجد في الحديث عدّة مراجع كتابيّة يمكنني أن أعود إليها.
اليوم الثاني: قلب الرسول
حين كلّم الله موسى من العلّيقة المشتعلة (سفر الخروج الفصل ٣) قال له ما معناه: “قد رأيتُ مذلّة شعبي، وسمعتُ صراخه، وعلمتُ بشقائه وأتيتُ لأنقذه… والآن اذهب فأنا أرسلك إلى فرعون.” فلنتنبّه للأفعال: رأيتُ، سمعتُ، علمتُ، أتيتُ… ثمّ اذهب، أنا أرسلك. ما يكشف لنا هذا النصّ هو أوّلاً أنّنا أمام إله يرى ويسمع، يتأثّر ويقرّر الخلاص، أي إله يهتمّ للبشر، له قلب. وثانيًا، هذا الإله لا نراه، ولا نرى أنّه يرى ويسمع ويأتي، ولكنّنا نرى موسى الّذي أرسله. فحين يأتي موسى يرى ويسمع ويتأثّر ويأتي، نرى فيه الله الّذي أرسله. الرسول هو صورة من أرسله، وجهه المرئيّ. وإذا كان يصحّ ذلك في موسى، كم بالحريّ يصحّ بيسوع الّذي هو كلمة الله منذ الأزل؟
يسوع لا ينفكّ يقول لتلاميذه أنّ الآب أرسله. ما نراه في يسوع يكشف لنا عن الآب. اهتمام يسوع بالبشر وحبّه لهم يكشف لنا عن قلب الله، عن إله يهتمّ. لا يمكننا أن نكون تلاميذ ليسوع إن لم نفهم ما هو الشوق الّذي في قلب يسوع لأن يعطي الخلاص للعالم، لأنّ هذا الشوق هو نفسه في أحشاء الآب. “من رآني رأى الآب” يقول يسوع، ويريد أن من يرى التلاميذ يراه هو، لأنّه يرسلهم كما الآب أرسله. رفيق يسوع يريد أن يظهر فيه حبّ الله للبشر وأن يعرف كلّ من يلتقيه أنّه محبوب وله كرامة وقيمة. لهذا فإنّ اللامبالاة بمصير الناس تتناقض جدًّا مع الشهادة المسيحيّة. يسمّيها الكتاب المقدّس قساوة القلب، ويصفها بأنّها عيون لا ترى وآذان لا تسمع. نحن نعلم أنّنا بسبب الخطيئة تقسو قلوبنا، ونعلم أنّ الله يشفي قساوة قلوبنا، ولكنّنا نحتاج إلى أن نطلب هذا الشفاء ونسعى إليه، وإلّا فلسنا تلاميذ للمسيح.
يسوع لا ينظر للناس كما ينظر إليهم البشر. في سمعان بطرس لا يرى الإنسان الّذي ينكره، بل الصخرة الّتي يبني عليها كنيسته، في بولس لا يرى مضطهد الكنيسة، بل رسول الأمم، في مريم المجدليّة لا يرى المرأة الزانية، بل تلك الّتي أحبّت كثيرًا وصارت الشاهدة الأولى على القيامة. في زكّا يرى أبعد من العشّار، وفي يعقوب ويوحنّا أبعد من صيّادي سمك، وفيّ أنا يرى أبعد ممّا أنا. حيث نرى الحدود يسوع يرى الإمكانيّات. وهكذا ينظر على كلّ إنسان. وإلى اليوم، إن كان يسوع غير منظور، يمكن لهذه النظرة أن تستمرّ بفضل الّذين يرسلهم.
أن أكون مُرسلاً من آخر يجعلني أعظم من نفسي. لأنّي لا أقوم بما أقوم به باسمي، بل باسم الّذي أرسلني. حتّى حبّي للناس، لا ينطلق من قلبي، بل من قلب الّذي أرسلني. لهذا فإنّ رسول المسيح، حين ينضج، لا يعود يتأثّر بمديح الناس ولا بإطرائهم. لأنّه يعلم أنّ الصلاح الّذي يرونه ليس منه، وأنّ الحبّ الّذي يختبرونه لا يصدر عنه. يعلم أنّه ليس مخلّص العالم، وكلّ رغبته هي في أن يخدم مخلّص العالم خدمة صادقة مفيدة. رفقة يسوع تجعل قلبي قلب رسول، قلبًا يهتمّ، يُصغي إلى رغبة الآب ويُصغي إلى شوق الناس، ويقبل أن يجعل منه الله، في قلب واقعه، جوابًا إلهيًّا على جوع العالم. ليس هو من يجعل نفسه كذلك، ولكنّ الآب الّذي يكلّمه في الخفية يدلّه على الطريق، يُظهر له إمكانيّاته حيث هو لا يرى إلاّ الحدود، يشجّعه حيث تُخيفه التحدّيات.
سنشاهد اليوم كيف ردّ يسوع على جوع البشر بتوزيع خمسة أرغفة من الخبز وسمكتين على آلاف الناس (يوحنّا ٦: ١-١٥). ولكن قبل ذلك، لا بدّ من التوقّف قليلاً على من هي سيّدة الرسل، والدة الإله مريم، الّتي تلقّت بشارة الملاك وقبلت أن تكون معبرًا لجواب الله على تناقضات البشر. إنّ النظر إلى مريم يكشف لنا أنّ القداسة لا تقوم على أعمال عظيمة ولا على مشقّات كبيرة. إنّ شدائد الحياة كافية ولا لزوم للمزايدة فيها. بل تقوم القداسة على قلب منفتح على عمل الله، لا يسعى إلى مجده الخاصّ بل إلى مجد الله الّذي يحبّ البشر. “إنّ الله ما رآه أحد قطّ، فإذا أحبّ بعضنا بعضًا، فالله فينا مقيم، ومحبّته فينا مكتملة” (رسالة يوحنّا الأولى، ٤: ١٢). لكي نرى الله يكفي أن نرى الإنسان الّذي امتلك الله قلبه.
خطوات التأمّل
بعد الصلاة التمهيديّة، أقرأ النصّ وأتخيّل المكان الّذي حدث فيه (على سفح جبل يطلّ على بحيرة طبريّة) وأطلب نعمة: “ربّي، اجعل قلبي قلب رسول، يفهم حبّك للبشر ويرغب في إظهاره للعالم”. ثمّ أنطلق في التأمّل.
النقاط الّتي أقترحها هنا هي للمساعدة. من المفضّل الاستغناء عنها حين يكون التأمّل سلسًا وسهلاً
• أشاهد حوار يسوع مع فيليبّس. ما معنى يريد أن يمتحنه؟ وكأنّه يسأله: هل عرفت الجوع يا فيليبّس؟ إذًا تعرف جوع الناس، أفلا تهتمّ؟ يحرّك فيه قلب الراعي والرسول. أدخل في حيرة فيليبّس وأشبّهها بحيرتي: هل أستفيد من شدّتي لكي أرى وأسمع وأفهم شدّة الناس؟ أن أنغلق على نفسي؟ وماذا يمكنني أن أفعل؟
• “ههنا صبيّ معه خمسة أرغفة وسمكتين، ولكن…” يرى أندراوس الإمكانيّات، ولكنّه يراها على أنّها حدود. “ولكن!” يستصغر الموجود كما يستصغر الناس الصبيّ. والله لا يستصغر أحدًا. أنظر إلى نفسي وأمتنع منذ الآن عن استصغارها، وأمتنع عن استصغار أيّ إنسان.
• أرى الخبز ينقسم على الناس، والكلّ يشبعون. هذا عمل الله الّذي يعطي الطعام في حينه. فلأقضِ وقتًا أتخيّل الآب ينظر إلى شعبه وهو يشبع، وأفرح بفرح الآب. أعتبر كيف أريد هذا الفرح أكثر من أيّ فرح آخر.
• “اجمعوا ما فضل من الكسر”. لا يريد يسوع أن يضيع شيئًا من هبة الله. يحترمها، يقدّرها. لأنّها هبة، أي تكلّمه عن الواهب.
• هرب يسوع من الجموع حين عرف أنّهم يريدون أن يجعلوا منه ملكًا. أرى قوّة يسوع أمام إغراء السلطة والنجاح. لا يستبدل فرح الآب بأفراح كاذبة. لا يريد الهيمنة على الناس، بل إشباعهم. أقارن بينه وبين ملوك الأرض.
بعد المناجاة أختم بصلاة الأبانا وأراجع تأمّلي وأدوّن ما لفت انتباهي.
اليوم الثالث: اليقظة
لماذا كان يسوع يعلّم الجموع بالأمثال؟ في إنجيل مرقس، أوّل مثل يعطيه يسوع هو مثل الزارع (مرقس ٤): خرج الزارع ليزرع، وقع بعض الحبّ على قارعة الطريق، بعضه الآخر على أرض حجرة، وبعضه الآخر بين الشوك، وبعضه الأخير على أرض طيّبة. ويختم قائلاً: “من له أذنان سامعتان فليسمع”. وحين ينفرد بتلاميذه يسأله هؤلاء عن المثل، فيقول: “أنتم أعطيتم سرّ ملكوت الله، أمّا سائر الناس فكلّ شيء يُلقى إليهم بالأمثال فينظرون نظرًا ولا يبصرون ويسمعون سماعًا ولا يفهمون، لئلاّ يرجعوا فيُغفر لهم.” كلام غريب صعب الفهم ويفاجئنا. كيف نتعامل مع الكتاب حين لا نفهم؟ يمكننا أن ندير ظهورنا ونمضي، فنكون مثل قارعة الطريق، تأتي الكلمة وتذهب ولا تترك أثرًا. يمكننا أن نتحايل على النصّ ونحبك معنًى جميلاً يجعلنا نفرح ونرتاح، ولكن ما أن تظهر التحدّيات نفقد الرجاء والقوّة: هذه حال الأرض الحجرة. ويجوز أن نسمع الكلمة ونحاول فهمها، لكنّنا نسمع كلمات كثيرة أخرى من هنا وهناك، ولأنّنا نصدّق كلّ شيء تختنق فينا الكلمة، مثل الزرع في الشوك. لكي تثمر فينا الكلمة، علينا أن نعطيها وقتًا، مثل الأرض الطيّبة. حين لا نفهم النصّ، فلنصبر بثقة، لأنّ المسيح يريد أن يعطينا سرّ الملكوت، ولكنّ السرّ لا يُعطى للمستهتر، وللمستعجل، وللمنهمك، بل يُعطى للمتيقّظ، الّذي يريد أن يفهم ويطلب الشرح.
كلمات يسوع عن النظر بلا بصر والسمع بلا فهم يأتي من أشعيا (الفصل ٦). حين رأى أشعيا مجد الله حوله وسمع السيّد يقول: “من أُرسل؟” قال: “هاءنذا! أرسلني!”. حينئذٍ قال له الربّ: “اذهب وقل لهذا الشعب: اسمعوا سماعًا ولا تفهموا، وانظروا نظرًا ولا تعرفوا. غلّظ قلب هذا الشعب وثقّل أذنيه وأغمض عينيه، لئلاّ يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيشفى”. فيقول أشعيا متفاجئًا: “إلى متى أيّها السيّد؟” فيأتي الجواب: “إلى أن تصير المدن خرابًا…” هل يُرسل الربّ نبيًّا لكي يمنع الشفاء عن الناس؟؟ بالطبع لا، ولكنّه يخبر النبيّ بما سيُعاني منه: كلّما كلّمهم بكلمة الربّ ظهرت قساوة قلوبهم أكثر ورفضوا تعليمه، وحكموا على أنفسهم. ولكن الله يقود هذا لصالحهم، لأنّ قساوة القلب حين تصير ظاهرة تقود إلى التوبة والشفاء. لهذا على النبيّ أن يقبل أن يكون معرّضًا للرفض.
التعليم بالأمثال يكشف القلوب، لأنّه يدعو الناس إلى أن يحكموا على أنفسهم، بدل أن يدافعوا عن أنفسهم. يروي العهد القديم قصّة خطيئة داود المشينة، حين أخذ امرأة أحد قادة جيشه حين كان هذا في الحرب، فحبلت منه. ولكي ينقذ نفسه من الفضيحة دبّر مقتل الزوج ثمّ اتّخذ المرأة بين نسائه (٢ صموئيل ١١). حينذاك يأتي النبيّ ناتان ليوبّخه. ولكنّه يستخدم الأمثال فيخبره عن رجل غنيّ نزل عليه ضيف، فشقّ عليه أن يذبح له من قطعانه، بل أخذ نعجة رجل فقير وذبحها. فغضب داود وقال: “حيّ الربّ! هذا الرجل يستحقّ الموت”. عندئذٍ قال له ناتان: “انت هو الرجل”. فكان أنّ داود حكم على نفسه بالموت، وكان أنّ الله نقل عنه خطيئته.
هذا هدف الأمثال! لأنّي ثقيل السمع والنظر والفهم، كلّما وصلتني كلمة الله تطلب التوبة أجد أعذارًا وأدافع عن نفسي، وألوم آخرين، أو أستهتر، يأتي المثل ليجعلني آخذ موقفًا، ثمّ أسمع صوت النبيّ: “أنت هو المعنيّ”. المثل يصير مثل المرآة، كلّ واحد يعطيه المعنى المتوفّر لديه، وهكذا تبدأ كلمة الله تعمل في كلّ واحد على قدر استطاعته إلى أن تبلغ به إلى التوبة.
ألقى يسوع أمثالاً كثيرة، لكنّ مثل الزارع هو مفتاح الأمثال، فهو يقول لتلاميذه: “أما تفهمون هذا المثل؟ فكيف تفهمون سائر الأمثال؟” (مرقس ٤: ١٣). ثمّ يضيف: “وكان يكلّمهم بأمثال كثيرة كهذه ليلقي إليهم كلمة الله على قدر ما كانوا يستطيعون أن يسمعوها. ولم يكلّمهم من دون مثل، فإذا انفرد بتلاميذه فسّر لهم كلّ شيء” (مرقس ٤: ٣٣-٣٤).
رياضتنا الروحيّة تقوم على التأمّل بكلمة الله، هذا الوقت الّذي فيه “ينفرد يسوع بتلميذه ويفسّر له كلّ شيء”. لأنّ التأمّل هو تلمذة. ليس وقت هدوء وراحة، بل وقت تيقّظ وفهم. وحين لا أفهم، أبقى لكي أفهم، وأعود لكي أفهم، وأطلب بإلحاح أن أفهم. وحين أفهم، أفهم ما يدعوني أنا إليه الله الآن. لا أفهم بالضرورة تعليمًا عامًّا يناسب كلّ الناس وكلّ الأوقات. فكما يقول البابا القدّيس غريغوريوس الكبير: “أنا أنمو والكتاب ينمو معي”. أي أنّ المعنى الّذي أناله من التأمّل اليوم يناسب اليوم، وكلّما نموتُ في ألفة الربّ، كلّما اغتنى فهمي بمعانٍ جديدة. في التأمّل تظهر لغة خاصّة بيني وبين المسيح، فيها يشرح لي ما يناسب طاقتي على الفهم. هذه اللغة الخاصّة شخصيّة جدًّا، ولكنّها لا تتناقض مع تعليم الكنيسة وإلاّ كانت وهمًا، لأنّ الروح الّذي يقود الكنيسة هو نفسه الروح الّذي يشرح لي كلّ شيء بحسب استطاعتي. إنّ اكتشافي لهذا المعلّم الداخليّ هو ما أسمّيه اليقظة. ففي باطني أنا أعرف مشيئة الله وهي تنكشف لي، إن لم أكن مستهترًا، ولا مستعجلاً، ولا منهمكًا بغيرها، أسعى إلى إرضاء الناس…
سنرى يسوع يخبر مثلاً آخر، مثل الابن الضالّ (لوقا ١٥: ١١-٣٢)
خطوات التأمّل
بعد الصلاة التمهيديّة، أقرأ النصّ وأتخيّل المكان الّذي حدث فيه (في الأمثال ما من مكان واقعيّ أذهب إليه بالخيال، ولكن يمكن أن أتخيّل بيتًا عائليًّا وسط أرزاق واسعة) وأطلب نعمة: “ربّي، أعطني نعمة اليقظة”. ثمّ أنطلق في التأمّل.
النقاط الّتي أقترحها هنا هي للمساعدة. من المفضّل الاستغناء عنها حين يكون التأمّل سلسًا وسهلاً
• أتخيّل نفسي صديقًا للابن الأصغر. أجلس معه وأسمعه يتكلّم عن رغبته في ترك البيت. ما الّذي يتعبه في حياة البيت؟ ما الّذي يدفعه إلى الخارج؟ أسمعه بدون حكم ولا جدال. أحاول أن أفهمه كما يفهم نفسه.
ثمّ أجلس معه ثانية وهو في الغربة يعاني من المجاعة، ويصارع نفسه لو يعود إلى البيت أم لا. أسمعه، أفهمه، أحبّه.
ثمّ أجلس معه بعد عودته، يخبرني عن شعوره، ولماذا هو سعيد الآن. ما الّذي تغيّر عن الأوّل؟
• أتخيّل نفسي صديقًا للابن الأكبر. أجلس معه وأسمعه يتكلّم عن خبرته في البيت، بعد رحيل أخيه. ثمّ أجلس معه ثانية حين اكتشف أنّ أخاه قد عاد وأباه احتفل به. لماذا هو غاضب؟ أسمع، لا أحكم، أحبّ… ثمّ أجلس معه مرّة ثالثة بعد أن خرج أباه إليه وكلّمه. فليكلّمني عن شعوره وعمّ اكتشف في هذه الخبرة.
• أجلس مع نفسي وأفكّر في كلّ ما سمعته: كيف أنّ المأساة الّتي ضربت البيت برحيل أحد الأبناء كشفت عن حزن كان يعمل بالخفاء وكان لا بدّ أن يخرج إلى العلن كي يشفى. كيف كشفت المصيبة عن قلب ابن لا يشعر بأنّه ابن، وقلب أب يكشف ما هي الأبوّة. وأفكّر في صعوبات حياتي، كيف تكشف لي عن أحزان تحتاج إلى شفاء، وعن مفاهيم خاطئة تحتاج إلى تصحيح… وأنظر إلى الآب الّذي هو أيضًا ينكشف في الصعوبات على أنّ له أحشاء تتحرّك وتعطي الحياة من جديد.
بعد المناجاة أختم بصلاة الأبانا وأراجع تأمّلي وأدوّن ما لفت انتباهي.
اليوم الرابع: غضب يسوع
تعلّم تلاميذ يسوع منه كلّ شيء. ولأنّ كان لا بدّ له من تركهم، أعطاهم الروح القدس الّذي يذكّرهم بكلّ شيء ويرشدهم إلى الحقّ كلّه، بل يأخذ ممّا ليسوع ويعطيهم. والشخص الّذي يُصغي للآب في الخفية، ينسجم أكثر فأكثر مع الروح، فلا يعود يضطرب لكلمات الناس المتضاربة، ولأحداث العالم المتسارعة. لأنّ الروح الّذي يناله ينتزعه من الخوف، كما يقول بولس الرسول: “لم تتلقّوا روح عبوديّة لتعودوا إلى الخوف، بل روح التبنّي الّذي به ننادي أبّا، يا أبتِ. وهذا الروح نفسه يشهد مع أرواحنا أنّنا أبناء الله.” (روما ٨: ١٥-١٦). إنّ الّذين يريدون إعادتنا إلى الخوف يعملون ضدّ الروح القدس، وهمّ ضالّون مضِلّون، لأنّهم يظنّون أنّهم بالخوف يعيدون الإنسان إلى طاعة الله، ولكن هل الطاعة المبنيّة على الخوف تمجّد الله؟ حين كان يسوع معلّقًا على الصليب قال له بعضهم: “ألستَ ابن الله؟ انزل عن الصليب نؤمن بك بأجمعنا.” ماذا كان حصل لو نزل يسوع عن الصليب؟ لكان آمن به الجميع، ولكن لا حبًّا به بل خوفًا منه. أليست هذه تجربة شيطانيّة؟ فالإنجيل يروي تجارب ثلاث عرضها الشيطان على يسوع، وفي واحدة منها يقول له: “أعطيك ممالك الأرض كلّها إن جثوتَ لي ساجدًا.” تخيّلوا هذا العرض: الشيطان ينسحب ولا يقاوم عمل المسيح، ولا يوجد من لا يؤمن ولا من يضلّل، ولا اضطهاد ولا شدّة ولا ضيق… ولكن كلّ بشارة المسيح تصير كذبة، لأنّها مبنيّة على منطق الشيطان. هذا ما كان حصل لو أنّ المسيح حصل على قلوبنا بالخوف: لكنّا كلّنا مؤمنين، ولكن بمنطق الشيطان، بمنطق العبوديّة لا بمنطق الحرّيّة. لا يكتفي يسوع برفض هذه التجربة، ولكنّها تحرّك فيه الغضب، لأنّه يعرف الفرق بين أبيه الّذي يحبّ الحرّيّة وينتزع من الخوف، وبين الكذّاب أبي الكذب الّذي يريد أن يعيدنا إلى العبوديّة. تعلّم تلاميذ يسوع منه كلّ شيء، بما فيه الغضب!
متى يغضب يسوع؟ لا يغضب عند لقائه الخطأة، فهو أتى من أجلهم، ولطالما لامه الفرّيسيّون لأنّه يخالط الخطأة. لم يغضب أمام المرأة السامريّة الّتي تعيش في الزنى (يوحنّا ٤)، ولا أمام زكّا الّذي يعرفه عشّارًا (لوقا ١٩). لم يرفض دعوة سمعان الفرّيسيّ له إلى وليمة في بيته (لوقا ٧: ٣٦)، ولم يغضب حين اعتقلوه وافتروا عليه وحكموا عليه بالموت. متى غضب؟ غضب حين استخدم الناس شريعة الله ضدّ الإنسان في حين أنّها وُضعت من أجل الإنسان. في مرقس ٣: ١-٦، دخل يسوع المجمع وكان بين الحاضرين رجلٌ يده مشلولة، وكان أعداء يسوع يتربّصون به ليمسكوا عليه خطيئة إن هو شفاه يوم السبت. فسألهم يسوع: ماذا تقول الشريعة؟ أيجب إحياء نفس أو إهلاكها في يوم السبت؟ وحين لم يجيبوا “أجال يسوع نظره فيهم مغتمًّا غاضبًا لقساوة قلوبهم”، ثمّ أعطاهم ما يريدون: شفى الرجل فحكموا عليه بالموت. لماذا غضب يسوع؟ لأنّ ما جعله الله من أجل الخلاص، استخدمه الناس من أجل الهلاك. هذا ما هو شيطانيّ. يعرف يسوع كيف يستقبل الخطأة، ويفهم ضعف الإنسان ويرفق به. “القصبة المرضوضة لا يكسرها، والفتيلة المدخّنة لا يطفئها” (أشعيا ٤٢: ٣)، “لأنّه عالم بجبلتنا وعارف أنّنا تراب” (مزمور ١٠٣). ولكن ما يثير غضب يسوع هو المنطق الشيطانيّ الّذي يدّعي أنّه يتكلّم باسم الله، ويمنع الفرح والحياة عن الناس باسم الدين.
نرى يسوع غاضبًا أيضًا أمام الهيكل، حين يجد أنّ الناس جعلوا منه مكانًا للمكسب التجاريّ. التجارة شيء حسن، وليس فيه ضرر. ولكن مكانه هو السوق. والإنسان يمجّد الله بالتجارة أيضًا، ولكن في مكانها، والشيطان هو الّذي يضع الأشياء في غير مكانها، فيخلط الأمور. لكي نفهم غضب يسوع، علينا أن نعرف الهدف من الهيكل. حين أراد داود بناء هيكل لله لم تكن هذه مشيئة الله لأنّه قال: لم أسكن بيتًا صنعته الأيدي! لأنّ الله في كلّ مكان، وعبادته في كلّ مكان. ومع ذلك، تنازلاً لحاجة الناس، سمح لسليمان بن داود أن يبني الهيكل. فدور الهيكل أن يكون علامةً وتذكيرًا بحضور الله في كلّ مكان. لكيلا يصير الله “تحصيلاً حاصلاً” وننسى سيادته في حياتنا اليوميّة، هناك هيكل. دور الهيكل أن يحوّل كلّ حياتنا إلى مكان عبادة، لا أن نسجن الله فيه ولا نعود نمجّد الله إلاّ في أوقات الصلاة. الهيكل ملح الأرض: يعطي نكهته في كلّ مكان. ونحن نعلم أنّ الهيكل لن يبقى للأبد. في أورشليم الجديدة، لا وجود للهيكل لأنّنا لن نحتاج إلى تذكير. يسوع نفسه يقول للسامريّة: تأتي ساعة لا تعبدون فيها الله على هذا الجبل ولا في الهيكل. فالله يريد عبادًا بالروح والحقّ. ومع ذلك يغضب يسوع حين يتلوّث الهيكل بمساعي التجارة. لأنّه يصير كالملح الفاسد، لا يقوم بدوره. التجارة مقدّسة، ولكنّها معرّضة للاستغلال، ولمنطق سيطرة الغنيّ على الفقير. ما الّذي يردع الإنسان؟ تذكار الله، الّذي يذكّره أنّ كلّ إنسان له كرامة. فإن استهان الإنسان بتذكار الله، أي بالهيكل، يغضب يسوع، لأنّ كلّ إنسان يصير معرّضًا للاستغلال وما من دواء.
الغضب شعور مقدّس نبيل، ينسبه الكتاب المقدّس إلى الله نفسه. حين كنتُ طفلاً بالإيمان لم أكن أحبّ نصوص الغضب في الكتاب المقدّس. كنتُ أرى غضب الناس وأشعر أنّه لا يليق بسموّ الله. ولكنّ غضب الإنسان مشوّه ومدمّر. غضب الله هو هو محبّته وفرحه ونعمته. لأنّ غضب الله يعني شيئين: أوّلاً أنّه إله يتأثّر، لا يبقى غير مبالٍ أمام شقائنا، وثانيًا أنّه إله لا يساوم علينا ولا يحبّ أن نساوم عليه. غضبه علينا هو غضب لأجلنا، كما نقول “يغار علينا”. وهو نفسه يُعلن أنّه لا يغضب مثل البشر: “قد انقلب فؤادي فيّ واضطرمت أحشائي. لا أطلق حدّة غضبي ولا أعود إلى تدمير أفرائيم لأنّي أنا الله لا إنسان والقدّوس في وسطك” (هوشع ١١: ٩). لا نستطيع مواجهة غضب الله بمساوماتنا، لأنّه يكشفها أمام عيوننا، وهذا معنى مخافة الله. ولكن، مثل أيّوب ومثل يسوع، يمكننا مواجهة غضب الله بآلامنا، لأنّه يغار علينا ويغضب لأجلنا، لأنّه يريد لنا الحياة الوافرة، ويُظهر غضبه بأن يُرسل إلينا خلاصه.
في الزمن الحاضر، يقولون إنّ الله غاضب وقد أرسل الوباء لتأديبنا. الله فعلاً غاضب، ولكنّه أرسل ذوي القلوب الرحيمة، أولئك الّذين مثله يتأثّرون لحالة البشر فلا يرضون أن يستهتروا بحياة الناس، بل يشعرون بالمسؤوليّة ويعملون في سبيل الخير، كلّ بحسب استطاعته. أمّا الأوبئة والحروب والزلازل، فكما يقول يسوع “لا تخافوا، فلا بدّ من حصول كلّ ذلك.” ألن يواجه كلّ إنسان نهاية حياته في هذا الجسد؟ ليس الموت عقابًا إلهيًّا، بل الحياة الأبديّة هي هبة الله، لأنّه قدّوس لا يداخله شرّ ولا يغضب مثل البشر.
فلنشاهد غضب يسوع (يوحنّا ٢: ١٣-٢٥)
23ولمَّا كانَ في أُورَشَليمَ مُدَّةَ عيدِ الفِصْح، آمَنَ بِاسمِه كثيرٌ مِنَ النَّاس، لمَّا رَأَوا الآياتِ الَّتي أَتى بِها. 24غَيرَ أَنَّ يسوعَ لم يَطمَئِنَّ إِلَيهم، لِأَنَّه كانَ يَعرِفُهم كُلَّهم 25ولا يَحتاجُ إِلى مَن يَشهَدُ لَه في شَأنِ الإِنْسان، فقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإِنسان.
خطوات التأمّل
بعد الصلاة التمهيديّة، أقرأ النصّ وأتخيّل المكان الّذي حدث فيه (هيكل أورشليم) وأطلب نعمة: “ربّي، أعطني أن أصغي إلى غضبك وأتعلّم كيف أغضب”. ثمّ أنطلق في التأمّل.
النقاط الّتي أقترحها هنا هي للمساعدة. من المفضّل الاستغناء عنها حين يكون التأمّل سلسًا وسهلاً
• أشاهد بالخيال كيف دخل يسوع الهيكل، كيف داخله الغضب، كيف حرّكته الغيرة على بيت الله، وكيف طرد الباعة. وأفكّر: لولا الغضب لوقعنا في الاستهتار، ولكان الظلم بلا رادع. أفكّر في واقعي: مجتمعي، كنيستي، قلبي: أين أريد لو يحرّرني غضب الله من خوفي ومن تواطئي.
• “كان يعني هيكل جسده”. يسوع يعلم أنّ هذا الهيكل هو إلى زوال، أمّا الهيكل الحقيقيّ الّذي لم تصنعه الأيدي هو الجسد، الّذي وإن غرق في الموت يقيمه الله لحياة أبديّة. أنا المحروم اليوم من الذهاب إلى الكنيسة والمشاركة الحسّيّة بالأسرار، أفكّر كيف أنّ الهيكل الحقيقيّ لم تبنه الأيدي، وأنّ الهيكل الظاهر هو علامة لحقيقة غير ظاهرة ولكنّها تلازمني حيث أكون. جسدي قادر على إظهار الحبّ. كيف عمليًّا؟
• “يسوع لم يطمئنّ إليهم… فقد كان يعلم ما في الإنسان”. الظاهر غير الباطن. هل يسوع يطمئنّ إليّ؟ هل أحيا في الظاهر أم أبني الباطن؟
بعد المناجاة أختم بصلاة الأبانا وأراجع تأمّلي وأدوّن ما لفت انتباهي.
اليوم الخامس: بذل الذات
حين بدأ يسوع يعلن كلمة الله بين الناس، كان تعليمه مرتكزًا على التوبة: “حان الوقت واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالبشارة.” (مرقس ١: ١٥). ما هي التوبة؟ هي تغيير الفكر وتغيير السلوك. يقول الله في أشعيا: “إنّ أفكاري ليست أفكاركم ولا طرقكم طرقي، يقول الربّ. كما تعلو السماوات عن الأرض كذلك طرقي تعلو عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم.” (أشعيا ٥٥: ٨-٩). أفكار الله غير أفكار الناس وطرق الله غير طرق الناس، والتوبة هي أن أقبل تغيير طرقي وأفكاري، بل الأصحّ هو أن أقبل أن يغيّر الله لي أفكاري وطرقي. فيضيف أشعيا: “لأنّه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجع إلى هناك دون أن يروي الأرض ويجعلها تنتج وتنبت لتؤتي الزارع زرعًا والآكل طعامًا، فكذلك تكون كلمتي الّتي تخرج من فمي: لا ترجع إليّ فارغة، بل تتمّ ما شئتُ وتنجح في ما أرسلتها إليه.” (٥٥: ١٠-١١).
إنّ تعليم يسوع يجذب الناس، لأنّه يخاطبهم من داخل أشواقهم. تعليمه يخاطب روح الله الّذي فينا. ولكنّه سرعان ما يصطدم بالمقاومة. ما هي هذه المقاومة الّتي فينا؟ من أين يأتي تعلّقنا بأفكارنا وبطرقنا حتّى لا نقبل أن نتغيّر؟ الجموع الّتي تبعت يسوع هي نفسها الّتي صاحت لبيلاطس “اصلبه! اصلبه!”. كثيرون آمنوا بيسوع، ولكن حين قادهم إلى أبعد قالوا: “هذا كلام عسير، من يطيق سماعه؟” (يوحنّا ٦: ٦٠) وابتعدوا عنه، حتّى إنّ يسوع سأل الاثني عشر: “أفلا تريدون أن تذهبوا أنتم أيضًا؟” وأجاب باسمهم سمعان بطرس: “يا ربّ، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبديّة عندك؟” (يوحنّا ٦: ٦٧-٦٨).
كلمة الله تأتي إلينا بالتعزية والتشجيع، ولكنّها لا تقف عند هذا الحدّ، بل تستفزّ رفضنا ومقاومتنا. تكمل عملها إلى أن تكشف أصنامنا، فتظهر فينا المقاومة. ويسوع واجه هذه المقاومة ولم يخف على شعبيّته ولم يهتمّ لرأي الناس فيه. لأنّه لم يهتمّ لنجاحه بنظر الناس وبحسب أفكار الناس. رهيبة حرّيّته! يريدون أن يقيموه ملكًا فيبتعد، ثمّ يريدون قتله فيأتي!! قلبه ثابت على رسالته، لا يحيده عنها مديح الناس ولا ذمّهم. وهو نفسه يقول سرّه: “ليس تعليمي من عندي، بل من عند الّذي أرسلني. فإذا أراد أحد أن يعمل بمشيئته، عرف هل ذاك التعليم من عند الله أو أنّي أتكلّم من عند نفسي. فالّذي يتكلّم من عند نفسه يطلب المجد لنفسه. أمّا من يطلب المجد للّذي أرسله، فهو صادق لا نفاق فيه.” (يوحنّا ٧: ١٦-١٨)، ويهزّ الضمائر قائلاً: “لا تحكموا على الظاهر، بل احكموا بالعدل.” (يوحنّا ٧: ٢٤).
يكشف لنا بذلك يسوع سرّه هو وفي الوقت نفسه يكشف سرّ مقاومتنا. هذا السرّ هو الكبرياء. كلمة كبرياء تأتي من “كِبر” وتكابر. والتكابر يأتي من خوفي العميق أن أُستصغر. أتمسّك بأفكاري لأنّي أظنّ أنّها تعطيني صورة جميلة في عيون الآخرين. أتخلّى عن موقع التلميذ لأنّي أشتهي موقع المعلّم. وكثيرًا ما أستخدم مظاهر التواضع نفسه لكي أكبر في عيون الناس. ويسوع واجه هذا التكابر حتّى عند تلاميذه الّذين كانوا يتجادلون في من هو الأكبر بينهم (مرقس ٩: ٣٤)، وعند رجال الدين (يوحنّا ١٢: ٤٣)، وحتّى عند الشعب الّذي أقبل إليه أوّلاً ولكنّه ما لبث أن رفضه (لوقا ٤: ٢٨).
رهيبة حرّيّة يسوع أمام الناس، فهو لا يُخفي مقصده ولا يُجمّل مشروعه. “من أراد أن يتبعني، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني.” (مرقس ٨: ٣٤). ما هو إنكار النفس؟ ليس كرهًا للنفس ولا تصغيرًا لها ولا قمعًا لها، بل هو قبولها على أنّها هبة من الله، تنمو نحو الله، لا تجد قيمتها في الكبر والكبرياء، ولا في النجاح والمجد في نظر العالم، بل بالتزامها الصدق والعدل والاستقامة. من يطلب المجد لذاته، يجد المجد الآتي من الناس. أمّا من يطلب المجد لإلهه يجد لنفسه المجد الآتي من الله. هذا الكلام يتحدّانا إلى أقصى درجة، لأنّه يدعونا إلى التخلّي عن تجميل النفس، لكي نحبّ الواقع أكثر من الأحلام. لأنّ الواقع يحمل وعد الله، أمّا الأوهام الجميلة فتبقى عقيمة.
لا نغشّ أنفسنا! فكثيرون يظنّون أنّهم ينكرون أنفسهم وهم في الواقع متعلّقون بأفكارهم ويمتنعون عن التوبة ولا يدرون. روى يسوع مثل الفرّيسيّ والعشّار (لوقا ١٨: ٩-١٤) لقوم “كانوا متيقّنين أنّهم أبرار ويحتقرون سائر الناس”. ولكن إن كان قلبنا خدّاعًا لهذه الدرجة، كيف نخلص؟ فيجوز أنّنا نقاوم التوبة ولا نعرف. مستحيل على الإنسان أن يخلّص نفسه بنفسه. ولكنّ الله أمين، وكلمة الله تنجح في مسعاها. إنّ الّذي أحبّني حين كنتُ غير مبالٍ فأرسل ابنه لخلاصي، كيف الآن وأنا أسعى إليه لا يهبّ لنجدتي ويكشف لي كبريائي ويحميني من قساوة قلبي؟ (روما ٥: ١٠). قبل أن أذهب إلى التأمّل في شفاء يسوع للأعمى منذ مولده (يوحنّا ٩: ١-٤١)، أترككم مع كلمات بولس الرسول، الّتي إن تآلفنا معها تحمينا من الكبرياء. أقرأ في فيليبي ٢: ٢-١٨:
6 هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة
7 بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان
8 فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب.
9 لِذلِك رَفَعَه اللهُ إِلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء.
10كَيما تَجثُوَ لاسمِ يسوع كُلُّ رُكبَةٍ في السَّمَواتِ وفي الأَرْضِ وتَحتَ الأَرض
11ويَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب.
12لِذلِكَ يا أَحِبَّائي، كَما أَطَعتُم دائمًا، فَلا يَكُنْ ذلك في حُضوري فقَط، بل على وَجهٍ مُضاعَفٍ الآنَ في غِيابي، واعمَلوا لِخَلاصِكم بِخَوفٍ ورِعدَة، 13فإِنَّ اللهَ هو الَّذي يَعمَلُ فيكُمُ الإِرادَةَ والعَمَلَ في سَبيلِ رِضاه. 14فافعَلوا كُلَّ ما تَفعَلون مِن غَيرِ تَذمُّرٍ ولا تَرَدُّد 15لِتَكونوا بِلا لَومٍ ولا شائبة وأَبناءَ اللهِ بِلا عَيبٍ في جِيلٍ ضالٍّ فاسِد تُضيئُونَ ضِياءَ النَّيِّراتِ في الكَون 16 مُتَمَسِّكينَ بِكَلِمَةِ الحَياة، لأَفتَخِرَ يَومَ المسيح بِأَنِّي ما سَعَيتُ عَبَثًا ولا جَهَدتُ عَبَثًا. 17فلَوِ اقتَضى الأَمْرُ أَن يُراقَ دَمي ذَبيحَةً مُقَرَّبَةً في سَبيلِ إِيمانِكم، لَفَرِحتُ وشارَكتُكمُ الفَرَحَ جَميعًا، 18فكَذلِكَ افرَحوا أَنتُم أَيضًا وشارِكوني الفَرَح.
للتأمّل: يوحنّا ٩ (١-٧ و٣٩-٤١)
٩ 1وبَينَما هو سائِرٌ رأَى رَجُلاً أَعْمى مُنذُ مَولِدِه. 2فسأَلَه تَلاميذُه: رابِّي، مَن خَطِىءَ، أَهذا أَم والِداه، حَتَّى وُلِدَ أعْمى؟ 3أَجابَ يسوع: لا هذا خَطِئَ ولا والِداه، ولكِن كانَ ذلك لِتَظهَرَ فيه أَعمالُ الله. 4يَجِبُ علَينا، مادامَ النَّهار، أَن نَعمَلَ أَعمالَ الَّذي أَرسَلَني. فاللَّيلُ آتٍ، وفيه لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَعمَل. 5مادُمتُ في العالَم. فأَنا نورُ العالَم. 6قالَ هذا وتَفَلَ في الأَرض، فجَبَلَ مِن تُفالِه طيناً، وطَلى بِه عَينَي الأَعْمى، 7ثُمَّ قالَ له: اِذهَبْ فَاغتَسِلْ في بِركَةِ سِلوام، أَي الرَّسول. فذَهَبَ فاغتَسَلَ فَعادَ بَصيراً.
39فقالَ يسوع: إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حُكْمٍ: أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَعْمى الَّذينَ يُبصِرون. 40فسَمِعَه بَعضُ الفِرِّيسيِّينَ الَّذينَ كانوا معَه فقالوا له: أَفنَحنُ أَيضاً عُمْيان؟ 41قالَ لَهم يسوع: لو كُنتُم عُمْياناً لَما كانَ علَيكُم خَطيئة. ولكِنَّكُم تَقولونَ الآن: إنَّنا نُبصِر فخَطيئَتُكُم ثابِتَة.
خطوات التأمّل
بعد الصلاة التمهيديّة، أقرأ النصّ وأتخيّل المكان الّذي حدث فيه (في الأمثال ما من مكان واقعيّ أذهب إليه بالخيال، ولكن يمكن أن أتخيّل بيتًا عائليًّا وسط أرزاق واسعة) وأطلب نعمة: “ربّي، هب لي أن أتعلّم منك كيف أرى الأمور بنور الله”. ثمّ أنطلق في التأمّل.
النقاط الّتي أقترحها هنا هي للمساعدة. من المفضّل الاستغناء عنها حين يكون التأمّل سلسًا وسهلاً
• “من خطئ، أهذا أم والداه حتّى وُلد أعمى؟” أمام الألم نسأل عن المعنى، ونبحث عنه في الماضي: على من يقع اللوم؟ لماذا سمح الله بهذا؟ إلخ. الواقع أنّ في الماضي لا نجد إجابة عن المعنى، بل نجد إجابة علميّة: وُلد أعمى بسبب خلل ما، إمّا في الجينات وإمّا في أثناء الحمل… أمّا المعنى فلا نجده في الماضي بل في المستقبل: “وُلد أعمى لتظهر فيه أعمال الله.” ويسوع يجعل من نفسه جوابًا على الألم، بأنّه يعمل فيه أعمال الله.
أفكّر في نفسي: أمام الصعوبة الحاليّة الّتي أواجهها، لماذا أضيّع الوقت في السؤال عن السبب في الماضي، بدل أن أبحث عن أعمال الله الّتي يمكنني اليوم أن أعملها لأستخرج معنى من الأحداث؟ ما هي أعمال الله الّتي يعرضها عليّ لأعملها، بحسب قدرتي وطاقتي؟
ثمّ أنظر كيف يسوع يقود أفكار تلاميذه إلى شيء جديد، بدل أن يبقوا في أفكارهم القديمة. ينقلهم من النظر إلى الماضي وعلى من إلقاء اللوم، إلى النظر إلى المستقبل وكيف يستطيعون أن يستعيدوا المسؤوليّة تجاه الأزمة. هذه هي التوبة الّتي أحتاج إليها.
• أرى كيف يعيد يسوع البصر إلى الأعمى. يجبل طينًا مثلما خلق الله آدم في البدء، ويدعوه أن يشارك في العمليّة فيقول له أن يغتسل في بركة سلوام. يحدّد يوحنّا أنّ سلوام تعني الرسول: أنا مُرسل، صاحب مسؤوليّة، مُكلّف باستعادة البصر. حين أذهب إلى إخوتي أرى أفضل ممّا قبل ما أعطاني إيّاه الله. الاهتمام الآخر لا بالنفس هو ما يجعلني أرى.
ثمّ أفكّر في داخلي: ربّما لي عمىً أنا لا أعرف به. أطلب من الله أن يشفيني.
• “تقولون إنّنا نبصر، فخطيئتكم ثابتة”. من يظنّ أنّه ليس بحاجة إلى توبة يظنّ أنّه امتلك الله، فلا يعود يبحث عنه. يكتفي بذاته وبأفكاره وينسبها لله.
بعد المناجاة أختم بصلاة الأبانا وأراجع تأمّلي وأدوّن ما لفت انتباهي.
اليوم السادس: الصداقة
أنت يا من تصغي إلى الآب حين يكلّمك في الخفية، يا من تعطي انتباهًا لعمل الروح في قلبك، يا من تسمح لكلمة الله أن تغيّرك، هل تدرك قيمتك؟ هل تدرك أنّك موضع حبّ شديد ليس له حدّ؟ هل تعلم أنّ الإنجيل كُتب لأجلك، بل السماوات والأرض خُلقت لأجلك؟ هل تعرف فرح السماء بشأنك؟ يكفي أن تقرأ في الإنجيل كيف ينظر المسيح إلى تلاميذه لتعلم! “قبل عيد الفصح، كان يسوع يعلم بأن قد أتت ساعة انتقاله من هذا العالم إلى أبيه، وكان قد أحبّ خاصّته الّذين في العالم فبلغ به الحبّ أقصى الحدود” (يوحنّا ١٣: ١). “كما أحبّني الآب كذلك أحببتكم أنا، اثبتوا في محبّتي… ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه” (يوحنّا ١٥: ٩-١٣). “يا أبتِ القدّوس، أحببتني من قبل إنشاء العالم، وأحببتهم كما أحببتني” (مركّبة من يوحنّا ١٧: ٢٣و٢٤). هل تعلم أنّ الإنجيل لم يُكتب ليروي قصّة يسوع، بل ليروي قصّتك أنتَ؟ فالإنجيل كُتب لكي نؤمن، فنتحوّل إلى ما نؤمن به. في إنجيل يوحنّا يبقى تلميذ بلا اسم، هو الّذي كتب الإنجيل، يقول التقليد إنّه يوحنّا نفسه. ولكنّه يبقى بلا اسم ليترك هذا المكان فارغًا للقارئ كي يصير جزءًا من القصّة ولكي يرويها. فقارئ الكتاب هو الّذي يضع رأسه على صدر يسوع (يوحنّا ١٣: ٢٥) ويسمع دقّات قلبه، وهو الّذي يأخذ الأمّ إلى بيته (يوحنّا ١٩: ٢٧) فتصير أمّه، وهو الّذي يروي إنجيل المسيح ويشهد له (يوحنّا ٢١: ٢٤).
في إنجيل مرقس، لا نقرأ شيئًا عن طفولة يسوع ولا أيّ تفصيل عن حياته الخفيّة. في خمسة عشر آية يلخّص مسيرته من عمادٍ وخلوةٍ في البرّيّة يواجه فيها تجارب العدوّ، وتبشير في مدن الجليل… وكأنّ كلّ ذلك مقدّمة. ثمّ تبدأ القصّة حين يدعو رفاقه الأوّلين: بطرس وأندراوس، ثمّ يعقوب ويوحنّا. وكلّ أخبار يسوع تتمّ بحضورهم، كما لو كان يدرّبهم، ينقل إليهم روحه. وفي وقت حاسم يسألهم: من تقولون إنّي أنا هو؟ فيجيب بطرس: “أنت المسيح”. منذ تلك اللحظة لا يعود يسوع يدور في مدن الجليل، بل يأخذ طريق أورشليم. وعلى هذا الطريق يشرح لتلاميذه أنّه عليه أن يواجه الموت. وفيما هم لا يفهمون، يشرح لهم شيئًا فشيئًا أنّه “لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم ويفتدي بنفسه جماعة الناس” (مرقس ١٠: ٤٥). ثمّ يدخل أورشليم، وهنا يتراجع دور التلاميذ، ولا يقوم يسوع بأيّ معجزة (سوى لعن التينة)، ولكنّه يواجه وحده رجال الدين الّذين يريدون قتله. وعند مجيء الساعة، يسلّم تلاميذه سرّ جسده ودمه ويذهب وحيدًا إلى الموت لأجلهم. وعند قيامته يرسلهم ليكونوا جسد المسيح في العالم. هكذا نكتشف أنّ الإنجيل هو قصّة ما يحدث في التلاميذ، كيف يصيرون جسد المسيح في العالم، وكيف أنّ ما يوحّدهم هو ذكرى حبّه لأجلهم، هو الّذي مات ليحييهم. وتصير هذه الذكرى متناقلة من جيل إلى جيل وصولاً إلينا. ونحن اليوم أحبّاء المسيح وجسد المسيح، وفينا يتمّ ما تمّ في الكتب، وما تمّ في الرسل. أوَ نعلم هذا؟
في مرقس ٦: ٣١ نقرأ: “فقال يسوع للرسل “تعالوا أنتم إلى مكان قفر تعتزلون فيه واستريحوا قليلاً”. لأنّ القادمين والذاهبين كانوا كثيرين حتّى لم تكن لهم فرصة لتناول الطعام.” هل تتخيّلون كيف ينظر يسوع إلى الرسل؟ بأيّ انتباه وحبّ؟ أتخيّله ينظر اليوم إلى الّذين ليست لديهم فرصة للراحة لأنّ القادمين والذاهبين كثيرون… ويحبّهم. لأنّهم سواء أعرفوه أم لا، يشبهون السامريّ الصالح (لوقا ١٠: ٢٥-٣٧)، الّذي مع أنّ عقيدته غير سليمة (هذه حال السامريّين بنظر اليهود) إلاّ أنّ قلبه متيقّظ. يسوع قادر على الصداقة، وبالصداقة يخلّص العالم! لا حدّ لقدرته على الصداقة، ويعلّمنا أن نكون أصدقاء، حتّى لأعدائنا. بالصداقة يطفئ نار العداوة. بالصداقة يخلّص الإنسان من خطيئته. بالصداقة يُحيي الموتى.
في إنجيل يوحنّا، يحاول اليهود أن يقبضوا على يسوع عدّة مرّات، ولكنّه يهرب منهم، لأنّ ساعته لم تكن قد أتت. ولكن حين يخبرونه أنّ صديقه لعازر، الّذي يحبّه، قد مات، يقرّر أن يذهب إليه (يوحنّا ١١). يقف أمام قبره ويرتعش قلبه ويبكي. يبكي صديقه الّذي غاب في ضياع الموت، ويبكي أيضًا لأنّه يعلم ما سيعمل: سيأخذ مكانه! ينادي لعازر من القبر، وهو يعلم أنّ هذا سيكلّفه أن يدخل هو القبر مكانه. يستدعيه كما استدعى الله آدم قديمًا: “آدم أين أنت؟”، “يا صديقي، قم من عدمك!” ويأخذ مكانه. إلى أين تذهب يا ربّ من أجل الصداقة؟ يقول يسوع لبطرس صديقه: إلى حيث أنا ذاهب لا تستطيع الآن أن تتبعني ولكن ستتبعني بعد حين (يوحنّا ١٣: ٣٦). وأنا أعلم أنّي لستُ بعد صديقًا مثل يسوع، ولكنّه يعدني أنّي سأحبّ مثلما أنا محبوب، وهذا الوعد هو أغلى ما على قلبي، لا أستبدله بأيّ شيء في الدنيا.
يا من تصغي إلى الآب في الخفية، أتعلم أنّك لعازر؟ أتعلم أنّه استدعاك من عمق عدمك، وأقامك له صديقًا، وأخذ مكانك في العدم، ليغلب العدم؟ أتعلم أنّك محبوب إلى هذه الدرجة؟ فاطلب الحبّ، لأنّ لا شيء في الدنيا أثمن من الحبّ.
سنشاهد يسوع وهو يدعو تلاميذه الأوّلين، في لوقا (٥: ١-١١)
خطوات التأمّل
بعد الصلاة التمهيديّة، أقرأ النصّ وأتخيّل المكان الّذي حدث فيه (على شاطئ بحيرة طبريّة) وأطلب نعمة: “ربّي، أعطني أن أنمو في الصداقة”. ثمّ أنطلق في التأمّل.
النقاط الّتي أقترحها هنا هي للمساعدة. من المفضّل الاستغناء عنها حين يكون التأمّل سلسًا وسهلاً
• أشاهد يسوع يعلّم الجموع. أراه في حماسه وشوقه إلى إلقاء كلمة الله، وأرى الجموع مشتاقة إلى كلمات تعزّيها وتحييها. ثمّ أراه يختار سفينة بطرس. أرى بطرس وأمله خائب لأنّه لم يصطد شيئًا. وأفكّر في نفسي: في أشواقي، وخيبات أملي، ومكان يسوع في حياتي.
• أرى يسوع يلتفت إلى بطرس ويطلب إليه أن يسير في العمق. أسمع اعتراض بطرس، ولكنّه “لأجل كلمتك” يلقي الشباك للصيد. وأرى الصيد الوفير. ثمّ أفكّر في نفسي: ما الّذي أنا مستعدّ للقيام به “من أجل كلمتك”؟ أتذكّر خبرات فشل ظهرت فيها خصوبة غير متوقّعة. أتُرى الربّ يعرفني؟؟؟
• أرى بطرس يواجه يسوع: “تباعد عنّي، إنّي رجل خاطئ”. وأرى يسوع يجيبه: “لا تخف”. أدخل في هذا الحوار. أتخيّل مشاعر بطرس، ثمّ مشاعر المسيح الّذي وجد رأس كنيسته في رجل خاطئ يعرف نفسه ولا يدين أحدًا. ثمّ أفكّر في لقائي مع المسيح: هو أمامي الآن وقد وجد فيّ صديقًا… وأنا ما الّذي وجدته؟ أعبّر ليسوع عمّا في قلبي وأنا أمامه.
• أرى كيف تركوا كلّ شيء وتبعوه. ما كان علامة البركة (أي الصيد الوفير) تركوه ليتبعوا سيّد التعزية. حين أجد الكنز لا أحتاج إلى خريطة. أفكّر في نفسي: هل أتعلّق أكثر بعلامات الحبّ ممّا بالحبيب نفسه؟ وأخاطب المسيح بكلّ ما يجول في بالي.
بعد المناجاة أختم بصلاة الأبانا وأراجع تأمّلي وأدوّن ما لفت انتباهي.
اليوم السابع: الثبات في المسيح
الثبات في المسيح يأتي من العمل بوصاياه. ووصاياه ليست ثقيلة الحمل، لأنّها تنبع من صداقته. لكي نبلغ إلى حبّ المسيح نحتاج إلى معرفة حبّه لنا. لأنّ هذه المعرفة تقود إلى الامتنان، والامتنان يقود إلى الحبّ. ما يجعلنا غير ثابتين هو الريبة والشكّ. لا أتكلّم عن التساؤلات الّتي تحضر في ذهني، فكثيرًا ما تكون الكلمة الإلهيّة أعمق من أن أدركها تلقائيًّا وأحتاج إلى السؤال والبحث والانتظار لكي تكشف لي عن أعماقها. ولكنّي أتكلّم عن الريبة بخصوص حبّ الله لنا. فقد اعتدنا على الحزن لدرجة أنّنا لا نصدّق كلمة الفرح بسهولة. لهذه الدرجة في أعماقي رفض لذاتي، استبطنته مع مرور الزمن لكثرة ما سمعتُ كلمات هدّامة ولم أعرف أن أطردها، حتّى استقرّت في قلبي وجعلتني أصدّق كلام الحزن. فما زالت كلمة الله تصارع في قلبي لتتغلّب على الكلمات الكاذبة الّتي تقيّدني. ولكنّي صرتُ الآن مشاركًا في هذا الصراع، إلى جانب كلمة الله. أعرف أنّي ما أزال معرّضًا للانزلاق، ولكنّي أعلم بمن وضعتُ ثقتي ورجائي. لهذا أخوض الصراع المعروض أمامي، واضعًا نصب عينيّ يسوع المسيح الّذي خاض الصراع ضدّ الخطيئة قبلي ولأجلي (عبرانيّين ١٢: ١-٣).
من أين تأتي الريبة؟ تأتي من الكلمات الّتي تدّعي قول الحقّ وهي أفكار بشر لا أفكار الله. لهذا ينبّهنا الرسول يوحنّا: “لا تركنوا إلى كلّ روح، بل اختبروا الأرواح لتروا هل هي من عند الله. لأنّ كثيرًا من الأنبياء الكذّابين انتشروا في العالم” (١يوحنّا ٤: ١). ليس كلّ ما يلمع ذهبًا ولا كلّ كلمة تدّعي الروحانيّة تأتي من الله. كيف نعرف كلمة الله من الكلمات الّتي تدّعي أنّها من الله؟ وكيف لا نقع ضحيّة الّذين يستغلّون طيبتنا وثقتنا ليقودونا إلى أفكارهم هم لا إلى أفكار الله؟ يعطينا الكتاب المقدّس مفاتيح كثيرة لتمييز الروحين، روح الله وروح الشرّير. سأتوقّف على لقب كلّ منهما.
يقول يسوع في الروح القدس إنّه “روح الحقّ المؤيّد” (يوحنّا ١٤: ١٦-١٧). يقول الحقّ ويحبّ الحقّ. وهو مؤيّد، باليونانيّة باراقليط، أي مدافع ومعزٍّ. يدفع إلى حبّ القريب والدفاع عنه. هو الّذي قاد مسيرة يسوع حتّى الصليب، حيث بذل نفسه في سبيل من يحبّ. وهو الّذي أرشد الرسل لكي يكملوا مسيرة يسوع. هو الّذي ألهم الكتب المقدّسة. هو الّذي دفع برجل مثل بولس الرسول أن يقول: “الحقّ أقول في المسيح ولا أكذب، وضميري شاهد لي في الروح القدس، إنّ في قلبي لغمًّا شديدًا وألمًا ملازمًا. لقد وددتُ لو كنتُ أنا نفسي ملعونًا ومنفصلاً عن المسيح في سبيل إخوتي” (روما ٩: ١-٢). هذا الروح يتوافق مع كلّ تعاليم الكتاب، ويعلّمنا أن نفسّرها تفسيرًا صحيحًا، فنعلم أنّ مشيئة الآب هي الرحمة لا الذبيحة، وخلاص الإنسان لا هلاكه، …
أمّا الروح الآخر فيسمّيه يسوع كذّابًا وأبا الكذب، قتّال الناس (يوحنّا ٨: ٤٤)، ويسمّيه سفر الرؤيا “المتّهم الّذي يتّهم إخوتنا نهارًا وليلاً” (رؤيا ١٢: ١٠). على عكس روح الحقّ هو ينطق بالكذب، وعلى عكس الباراقليط هو متّهم يريد هلاك الإنسان بخطيئته. على عكس روح المسيح، يُدخلنا في العجب والمنافسة، ويجعلنا نظنّ أنّنا أكثر برًّا وقداسة من الآخرين فنحكم عليهم.
كثيرون في زمننا الحاضر يسألون لمَ تتضارب التعاليم في الكنيسة؟ ومن نصدّق؟ ومن نتبع؟ جزء مهمّ من ريبتنا تأتي من أنّ الرعاة أنفسهم لا يتكلّمون برأي واحد وكلّ واحد يشدّ باتّجاه. من المهمّ أن نعلم أنّ تعاليم الكنيسة ليست كلّها على مستوى واحد. ما يجمعنا ويحدّد إيماننا هو ما نسمّيه “قانون الإيمان” (نؤمن بإله واحد…). وعلى هذا القانون نحن متّفقون ومتّحدون. ثمّ تأتي مستويات أخرى من التعليم، مثل معنى الأحداث الّتي نعيشها، وقراءة علامات الأزمنة، وتفسير بعض النصوص، إلخ… على هذا المستوى، من الطبيعيّ أن يكون هناك اجتهادات وتفسيرات مختلفة، وذلك منذ أيّام الرسل. في الفصل الرابع عشر من الرسالة إلى أهل روما، يشرح بولس كيفيّة التعامل مع الاختلاف في الكنيسة. فبعض الناس كانوا يرون من الحرام تناول اللحوم الّتي قُدّمت إلى الأوثان. وبعضهم الآخر كان يقول إنّه لا يؤمن بالأوثان، فهذه اللحوم لا تختلف عن غيرها. فكان البعض ينعت البعض الآخر بالكفر، ويردّ هؤلاء باحتقار أولئك لضعف إيمانهم. أمّا بولس فسمح لكلّ واحد أن يتصرّف بحسب ضميره، مذكّرًا أنّ من امتنع فللمسيح يمتنع، ومن استحلّ فبالمسيح يستحلّ، ولا لزوم لاتّهام الآخر واحتقاره.
في أيّامنا كثيرون يريدون إجابة: هل الله أرسل الوباء لتأديبنا؟ ليست الإجابة نعم أم لا! فالوباء له شرح علميّ واضح معروف، وانتشاره يأتي من نوعيّة العلاقات البشريّة الّتي تزداد عولمة، وكذلك من ثقة مفرطة بإمكانيّاتنا العلميّة. ولكن هل من معنى آخر نستمدّه من الوباء؟ هذا المعنى ليس موضوع تعليم كنسيّ، بل هو موضوع تمييز روحيّ. ما الكلمات الّتي تعطي رجاء وثقة وجرأة، تشجّع على محبّة القريب وتصحّح الخلل الّذي أدّى إلى الكارثة؟ وما الكلمات الّتي تثير الذعر أو شعور الذنب، الّتي تستغلّ الأزمة لتسوّق أفكارًا خاصّة، تُسقط على الله مشاعر أصحابها وتجعله ساخطًا بسبب ما لا يعجبهم؟ أليس من السهل أن نعرف ما الّذي يأتي من روح الربّ وما الّذي يأتي من روح العدوّ؟ المحنة تدعو دائمًا إلى التوبة، وهذا حسن، ولكنّ التوبة هي تحوّل نحو الله، فالّذين يدعون إلى توبة تحوّلنا إلى أفكارهم هم يُخطئون خطيئة كبيرة. وبدلاً من إضاعة الوقت في أسئلة لا إجابة لها، فلنقل مع المسيح: لا هذا أخطأ ولا والداه، إنّما الوباء هو لتظهر أعمال الله، أي لتظهر القلوب الّتي فيها رحمة، والسواعد الّتي تنبري للخدمة، ولتنكشف القلوب الّتي لا تبالي، والسياسات الّتي لا تخدم إلاّ ذاتها.
قبل أن نتأمّل كلمات يسوع في إنجيل يوحنّا، أترككم مع هذا النصّ من بولس الرسول (روما ٨):
31 فماذا نُضيفُ إِلى ذلِك؟ إِذا كانَ اللّهُ معَنا، فمَن يَكونُ علَينا؟ 32 إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟ 33 فمَن يَتَّهِمُ الَّذينَ اختارَهمُ الله؟ اللهُ هوَ الَّذي يُبَرِّر! 34 ومَنِ الَّذي يُدين؟ المَسيحُ يسوع الَّذي مات، بل قام، وهو الَّذي عن يَمينِ اللهِ والَّذي يَشفعُ لَنا؟ 35فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟ 36 فقَد وَرَدَ في الكِتاب: إِنَّنا مِن أَجْلِكَ نُعاني المَوتَ طَوالَ النَّهار ونُعَدُّ غَنَمًا لِلذَّبْح. 37 ولكِنَّنا في ذلِكَ كُلِّه فُزْنا فَوزًا مُبيناً، بِالَّذي أَحَبَّنا. 38 وإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، 39 ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا
نصّ التأمّل: يوحنّا ١٥: ١-١٧
خطوات التأمّل
بعد الصلاة التمهيديّة، أقرأ النصّ وأتخيّل المكان الّذي حدث فيه (العلّيّة حيث تمّ غسل الأرجل) وأطلب نعمة: “ربّي، أعطني الثبات فيك”. ثمّ أنطلق في التأمّل.
أتوقّف على كلّ جملة. أعيدها. أتذوّقها. ما معنى أن أثبت في المسيح؟ الثبات في المسيح يأتي من العمل بوصاياه. ووصاياه ليست ثقيلة الحمل، لأنّها تنبع من صداقته. لكي نبلغ إلى حبّ المسيح نحتاج إلى معرفة حبّه لنا. لأنّ هذه المعرفة تقود إلى الامتنان، والامتنان يقود إلى الحبّ. أحاول أن أشعر بحبّ يسوع في كلّ جملة.
بعد المناجاة أختم بصلاة الأبانا وأراجع تأمّلي وأدوّن ما لفت انتباهي.
اليوم الثامن: ثمار الرياضة
وصلنا إلى نهاية المرحلة الثانية من رياضتنا، وكان محورها التلمذة بالقرب من يسوع. سنأخذ بعض الراحة، فقريبًا تُدخلنا الكنيسة في المرحلة الثالثة، أي في أسبوع الآلام، ثمّ في المرحلة الرابعة، مرحلة القيامة. لن تُكمل رياضتنا، بل سنضع على هذه الصفحة بعض الاقتراحات لعيش هذا الوقت المقدّس. وسنحيل إلى صفحات أخرى ومواقع قد تساعدنا على عيش زمن الفصح بطريقة روحيّة. لكنّ رياضتنا #خلّيك بالبيت وصلت إلى خاتمتها، والآن يجب أن نقطف الثمار.
سنستعيد ما دوّنّاه يومًا بعد يوم، وقد نعيد قراءة النصوص والأحاديث، وفي كلّ هذا يسكننا سؤال واحد أساسيّ: كيف أكون على مستوى الحبّ الّذي به أحبّني الله؟ كيف أتصرّف بشكل يناسب هذا الحبّ؟ كيف أتنبّه لمن هم حولي لأساهم في فرحهم ومقاومتهم صعوبة الزمن الحاضر؟ كيف أساهم في حركة التضامن الّتي تجمع الناس من كلّ مكان ليواجهوا معًا تحدّي الوباء وما يجرّه من ضيقة اقتصاديّة؟ كيف أحسّن علاقاتي شيئًا فشيئًا فلا أبقى غير متصالح، ولا أبقى في الشكوى، بل آخذ مكاني وأحمل مسؤوليّتي؟ لا أقوم بأيّ شيء بعنف ولا أفرض على نفسي شيئًا لا يأتي من حبّ وامتنان. فالثبات يفترض الصبر على النفس أوّلاً وعلى الآخرين أيضًا.
سأعطي بعض المراجع الّتي قد تسند صلاتنا في الأيّام المقبلة، إلى أن نضع الاقتراحات الروحيّة القادمة.
• ١كورنتس ١٣
• ١يوحنّا ٤: ٧-٢١
• روما ٨: ١٨-٢٨
• أفسس ٣: ١-٢١
• أفسس ١: ٣-١٤
• ٢كورنتس ٤: ٧-١٨
• ٢كورنتس ٥: ١٤-٢١
• ٢كورنتس ٦: ١-١٠
• فيليبي ٣: ٧-١٦
وأخيرًا أطلب إليكم الصلاة لأجلي ولأجل الّذين طلبوا هذه الرياضة وأعدّوها لتصل إليكم.
حيّ هو المسيح.
ماراناتا، تعال أيّها الربّ يسوع!